المستقبل التام ـ أساسيات العولمة (3) ـ التكنولوجيا بوصفها حرية.. أولى قاطرات العولمة

أسرع نمو في امتلاك الهواتف النقالة يجري في البلدان النامية وسط قطاعات بعيدة عن الثراء

TT

ما الذي يحرك العولمة؟ ان قرار السياسيين التدريجي بالابتعاد عن طريقها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، اتاح لشتى القوى التجارية بأن تبرز الى المقدمة: الانترنت، سوق العملات الاجنبية، اندماج الشركات، الاستثمار الاجنبي المباشر، قد يجادل البعض (عن حق، لكن من دون فائدة كبيرة)، ان عصفات الريح هذه ليست سوى اجزاء من الاعصار المدمر نفسه المسمى بالرأسمالية المعاصرة. وقد اخترنا ان نفرز هذه الجوانب وغيرها في زمر مستقلة تحت ثلاثة عناوين، حيث سنعالج كل زمرة معالجة منفصلة في الفصول الثلاثة التالية وهي: التكنولوجيا، اسواق المال، والإدارة.

إن كل واحدة من هذه القوى جبارة بذاتها، غير أن ما يكسبها المنعة العاتية التي تميزت بها في السنوات الأخيرة، انها تنسجم مع بعضها كل الانسجام. فالتدفق الحر لرؤوس الأموال يسهل على الشركات، في أقصى بقاع العالم وأكثرها عزلة، أن تشتري ما تشاء من التكنولوجيا الجديدة. والتكنولوجيا الجديدة تسهل انتقال رؤوس الأموال إلى اقصى بقاع العالم. أما الإدارة management، ونعني بها انتشار طرق مشتركة للإدارة، ونمو صناعة الإدارة بما فيها من شركات استشارية ومدارس للأعمال، وتطور كادر جديد من المديرين المحترفين للشركات متعددة الجنسية، فإنها تنبه الشركات إلى الطرق الذكية التي تستطيع ان تستخدم بها الرأسمال والتكنولوجيا.

وان الشركات التي تجيد تنظيم صفوفها أفضل من منافساتها سرعان ما تتوسع خارج حدودها القومية، فتضغط بذلك على الشركات الأقل كوزموبوليتية لتدفعها إلى السير في اثرها أو المجازفة بالهلاك، وهكذا دواليك.

* سائح من بولتن

* يرتبط اسم فيرانتي، عند معظم البريطانيين، بالماضي لا بالمستقبل. كانت عائلة فيرانتي على مدار القرن الماضي، أبرز الأسر البريطانية في مجال الإلكترونيات. غير أن الحكومة البريطانية اضطرت إلى التدخل لإنقاذ الشركة في السبعينات، وأنقذتها فعلاً، إلا أنها انهارت آخر المطاف بعد فضيحة في الحسابات. ولعل بوسع الزائر لمنزل عائلة ماركوس دي فيرانتي في بولتن، أن يشاهد صور العائلة ليتأكد من هذه الصورة المتطلعة إلى الخلف. ترسم صور العائلة لوحة رحلة متوقعة في مسار المؤسسة البريطانية، من أيام مدرسة ايتوك، إلى حفلات التزلج. ان قطعة التكنولوجيا الوحيدة التي يمكن ان يراها الناظر لا تزيد عن جهاز كومبيوتر في غرفة مكتبة فيرانتي. وتظهر على الشاشة صورة جزيرة اسكوتلندية، غير مأهولة، حيث كان يرغب فيرانتي أن يبني بيتاً. أما بالنسبة إلى فيرانتي نفسه، فهو يتسم بسحر إنسان لم يحاول قط أن يبذل أي جهد في شيء. العب معه التنس وستجده يضحك حين يخسر، رغم أنه أنفق ثروة صغيرة لتحسين أدائه في هذه اللعبة.

الواقع، أن حياة فيرانتي في المهنة ليست تقليدية، نوعاً ما، رغم أنها تبدو الآن ثورية بقضها وقضيضها. تخرج فيرانتي في جامعة أدنبرة عام 1982، ليصبح طياراً حربياً يقود مقاتلة، وهي مهنة تقوم على جدارة القلة بصورة تثير قلق طلاب مدارس ايتون الكسالى، لأنها ترفض تسعة من كل عشرة متقدمين.

بعد ذلك أمضى سنتين عمل خلالهما في شركة لتصنيع البرامج تابعة لشركة «جي اي سي» GEC، عملاق صناعة الدفاع البريطانية التي قامت، ويا للمفارقة، بنهش لحم شركة عائلة فيرانتي، قبل أن تعرض عليه وظيفة مذهلة: عامل في وحدة شكلتها حكومة المحافظين لفك الضوابط المقيدة للصناعة البريطانية.

في البدء، كانت وسائل الوايتهول (الحكومة) الغريبة تسلّي فيرانتي، لكنه سرعان ما وجد أن هذه الوظيفة محبطة. فحكومة المحافظين، التي فقدت شعبيتها، ترتعد من المضي شوطاً أبعد لزيادة المنافسة. غير أن فيرانتي رأى أن فك الضوابط لم يتحقق بالقدر الكافي، خاصة في مجال الاتصالات اللاسلكية. وكلما سأل رؤساءه عن سبب استمرار المحتكر القديم، أي شركة بريتش تليكوم، ثابتا في موقعه المسيطر، قيل له بأنه ساذج، ألا يعرف أن المحافظين بسبيلهم إلى أن يخسروا الانتخابات، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1996، أي قبل ستة أشهر من سقوط المحافظين، ترك فيرانتي الوحدة، وذهب للعمل مع أخيه، رجل الأعمال.

وفي شهر يونيو (حزيران) 1997، جاء صديق يدعى ريتشارد اليوت إلى بولتن لتناول كأس بعد التنس. واليوت شاب طويل، من تلاميذ المدارس الحكومية، اراد دوما أن ينشئ شركته الخاصة. انضم اليوت إلى الجيش ثم دخل في متاهة مدينة المال (سيتي) في لندن، وراح فيرانتي يلحف بالسؤال تلو السؤال عن عدم كفاءة الأسواق، خاصة الأسباب التي تقف وراء ارتفاع تكاليف المكالمات الخارجية أو ما السبب في عدم وجود سوق يتاجر فيه الناس بزمن الهاتف؟

وعرض فيرانتي فكرة اقامة بورصة على الانترنت ترسل إليها شركات الاتصالات اللاسلكية عروضها الغفل لشراء أو بيع دقائق فترة المكالمات الهاتفية، بين أية نقطتين. أبدى اليوت دهشته من هذه الفكرة وتساءل من أين سيأتي فيرانتي بالمال اللازم للبدء بمبادلة هذه السلع. كان ذهنه معتاداً على فكرة وجود مبنى يأتيه المتبادلون للمساومة. شرح فيرانتي الفكرة بقوله ألا حاجة هنا لآجر ومدق، فكل ما تحتاجه البورصة هو برنامج كومبيوتر وموقع على شبكة الانترنت. قدم اليوت في نهاية يونيو (حزيران) استقالته إلى رؤسائه في كلاين فورت بنسون الذين سعدوا بها وبدأ العمل في شركة باند ـ اكس التي أنشأها مع فيرانتي في غرفة المطالعة في بيت هذا الأخير.

لو نظرنا من موقعنا الحالي إلى تلك الأيام، لوجدنا ان اكبر رصيد في شركة باند ـ اكس، كان جهل مؤسسيها بواقع شركات الاتصالات اللاسلكية. الواقع ان اثنين من المديرين المحنكين في هذه الصناعة ممن طلب فيرانتي مشورتهم قبل ان يبدأ مشروعه، نصحاه بأن يتخلى عن الفكرة في الحال. نعم، اتفق الخبيران معه على انه من السهل هذه الأيام تحويل المكالمات من شركة ناقلة إلى شركة ناقلة أخرى. ثم، نعم، ان هناك شركات ناقلة كبرى تمتلك طاقة فائضة، لكن معظم المكالمات الهاتفية لا تزال محكومة بأسعار محددة بموجب معاهدات دولية معقدة، وان نحو 10 في المائة من هذه المكالمات يباع بأسعار السوق. أجرى فيرانتي بعض الحسابات، وأجاب بأن هذه النسبة توفر سوقا بقيمة 60 مليار دولار. أقر المديران بأن ذلك صحيح، لكنهما قالا إن بيع «الوقت» مجهد. نعم، تستطيع أن تبيع ذلك، لكن من خلال سماسرة متمرسين يطلبون عمولة بنسبة 20 في المائة. هنا أجاب فيرانتي بأن بورصته ستطلب عمولة %1 فقط، وبما ان كل الأطراف تستطيع أن ترى العروض أو المناقصات، فإن كل طرف سيدرك أنه قد يحصل على أفضل سعر «يا لك من ساذج»! الواقع ان شركة باند ـ اكس نمت نمواً سريعاً بفعل بساطتها بالذات بحلول أغسطس (آب) 1997، انضم إلى هذه البورصة مائتا عضو، وبرهنت بشكل ملموس إلى أي مدى يمكن للأسعار أن تنخفض في السوق الحرة. أخذت هذه البورصة تبيع دقيقة المكالمة بين نيويورك ولندن بسبعة سنتات، وهذا يبلغ السدس من تعرفة بريتش تليكوم، ويساوي تكلفة مكالمة محلية في لندن. وكان فارق الأسعار على الخطوط الأخرى أكبر بكثير. وتدفق سيل من مديري شركات الاتصالات اللاسلكية في الطابور، عبر غرفة جلوس فيرانتي (اضطر رئيس شركة اسكندنافية تابعة للقطاع العام أن يمضي وقته باللعب مع الأطفال بانتظار دوره).

بحلول يونيو (حزيران) 1998، اجتذبت شركة باند ـ اكس نحو ثلاثة آلاف عضو، من البوسنة إلى بنغلاديش، وأصبحت أشبه ببورصة بعد أن فتحت لها بداية خاصة في بدالة لندن المركزية، نيلي هاوس، مما أتاح لها عقد الصفقات وترتيبها، وسهّل لها ذلك ان تقوم بالمتاجرة آنياً، أي أن تبيع الدقائق الفائضة لحظة توفرها، وليس قبل ذلك.

أدى هذا الترتيب إلى توسيع الأعمال إلى درجة دفعت شركة باند ـ اكس إلى مغادرة غرفة مكتبة فيرانتي، وحصلت في عام 1999 على تمويل بقيمة 101 مليون دولار من رأسمالي مغامر من شيكاغو، في صفقة قدرت قيمة باند ـ اكس بأكثر من 30 مليون دولار. هذا ما أشار إليه أحد العاملين في وول ستريت عام 2000. مع هذا، ظل للشركة نشاط تجاري يثير الإعجاب. وتعرض شركة باند ـ اكس خدماتها على شبكة الإنترنت اعتماداً على شركة إلكترونية مقرها الرسمي في كندا. اضافة إلى هذا، ان بوسع الرجلين الانجليزيين، اللذين أسسا باند ـ اكس، أن ينسبا لنفسيهما دوراً صغيراً في الظاهرة التي أطلق عليها فرانسيس كارينكروس، في صحيفة «الايكونومست»، تعبير «موت المسافات».

قبل أن يشرع الفني فيرانتي بتحدي الأساليب القديمة، كانت تكاليف المكالمة الهاتفية من نيويورك إلى لندن تساوي دولارين في عام 1996، مقارنة بثلاثمائة دولار في العام 1930 (مقارنة بأسعار 1996). ولو عنّ لك اليوم، أيها القارئ، أن تتجول في الهند، لوجدت أيادي وعيونا وأصواتا وعقولا أرخص تكلفة وهي تؤدي أعمالاً مذهلة: تدقيق طلبيات التأمين، إدارة المكاتب الخلفية لشركة الطيران السويسرية، الاتصال بمن يستخدمون بطاقات الائتمان الأميركية لشركة جنرال موتورز، بل حتى حراسة مباني بعض الشركات في كاليفورنيا (بمراقبة صور التلفزيونات الأمنية المرسلة عبر الأقمار الصناعية). وتتوفر الآن، بفضل مزيج من التكنولوجيا وفك الضوابط، فرصة مغرية بخفض كلفة المكالمة الهاتفية إلى درجة الصفر عملياً.

لعل هذه الثورة أبعد بعض الشيء مما يأمله الناس. وهناك على أية حال، وفرة من الشخصيات الأكثر شهرة من فيرانتي واليوت. غير أن أثرهم ملحوظ تماماً. فالمستهلكون في أرجاء العالم يستخدمون قوائم باند ـ اكس عن التكاليف الحقيقية للاتصالات بهدف مهاجمة الاحتكارات القديمة. وان العقول الذكية في هذه الصناعة تفكر في إنشاء سوق للفروع الثانوية للتجارة بوقت الاتصالات اللاسلكية. ولا حاجة بنا إلى القول إن فيرانتي واليوت لا يزالان هادئين بصدد دور باند ـ اكس في هذه الثورة. لقد خرّب نجاح باند ـ اكس حياتهما الاجتماعية، كما يقولان. فمثلا ان فيرانتي اضطر إلى إرجاء خططه لبناء المنزل في الجزيرة الاسكوتلندية. اما اداؤه في التنس، الذي كان على وشك ان يشهد قفزة نوعية لحظة تأسيس الشركة، فلم يتحسن بالمرة! إن فكرة استحقاقهما شرف خفض تكاليف المكالمات الهاتفية، ناهيك من «قتل المسافات»، تشعرهما بالسرور. ويقول فيرانتي وهو يتطلع إلى شاشة الكومبيوتر بشيء من التأسي «كان بوسع أي ساذج أحمق أن يفعل ذلك، عاجلاً أم آجلاً».

* الإطلال على الماء

* ينبغي اعتبار قصة نجاح شركة باند ـ اكس على أنها ردّ مفحم لنمطين من الناس. الأول يتمثل في سائر أصحاب الحتمية من التكنوقراط ممن يعتقدون أن وجود الآلة يكفي بحد ذاته ليكون أثرها شاملاً. فمثلا ان اندي جروف من شركة انتل يقول إن «التغير التكنولوجي وما يولده من آثار، أمر محتوم، وأن صدّ هذا التغير وآثاره ليس بالخيار الصحيح».

ان الفكرة القائلة بأن التقدم وصولاً إلى «عالم خال من الاحتكاك» بسيطة بساطة تغيير إشارات المرور في بالو التو، غير أنها تلوح خاطئة بالكامل. قد تكون هذه الفكرة مجرد تعبير عن نزعة لودية Ludism، (ونظل نحن نمطا من الصحافيين الذين يقضون من الوقت في نقل تقرير اخباري إلى لندن، أكثر مما يقضون وقتاً في كتابته أصلا)، غير أن العالم حافل بالأمثلة الوفيرة على مدى تعقيد وتناقض الصلة بين التكنولوجيا والعولمة، إلى درجة مثيرة لليأس.

اما النمط الثاني من الناس، فيضم سائر الليبراليين المتحجرين الذين يعتبرون التكنولوجيا بمثابة «الأخ الأكبر» Big Brother، أي بمثابة المقيد للحرية الفردية. فالآلات في نظرهم وسيلة لاقتناص المعلومات عن الناس، وارغامهم، بل التجسس على «أعداء الدولة»، من الجو. الواقع ان الطريقة العشوائية، غير المتوقعة، التي تنتشر بها التكنولوجيا في أرجاء العالم، هي التي تجعلها تدميرية إلى هذا الحد. التكنولوجيا تتيح لأرباب العمل مثل فيرانتي حرية تحدي الشركات العملاقة، وتحطيم كل تمركز للسلطة، كما أن التكنولوجيا تمنح الناس القدرة على عقد الصلات في أرجاء المعمورة، وتسمح لهم بالإفلات من طغيان المكان.

حين يفكر معظم الناس في تأثير التكنولوجيا على العولمة، فإنهم يرونها في الكومبيوترات والهواتف، لكن هناك، كما يقال، اختراعات عادية تركت آثارا أعظم، غير أن قلة منها كان تأثيرها فائقا لكي تسمح للناس بالإفلات من سطوة المكان. خذ مثلا على ذلك، مكيفات الهواء. لقد شيد أول منزل مكيف الهواء على يد مليونير من مينيا بوليس عام 1914، لكن تأثير هذه الاداة في حياة المجتمع لم يبدأ إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وهناك عدة أشخاص، في الولايات المتحدة، ممن يزعمون ان لتكييف الهواء تأثيرا كبيرا في التكامل مع الجنوب، شأنه شأن حركة الحقوق المدنية. وكما قال استاذ التاريخ رايموند ارسينولت، فإن شركة «جنرال الكترينك برهنت انها غاز مدمر اكثر من الجنرال شيرمان».

وما يصح على مدينة سفانا يصح على مدن ساو باولو واشبيلية وشانغهاي. ويقول لي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة «تاريخياً، ازدهرت الحضارات المتقدمة في المناخات الأخف حرارة، إلا أن نمط حياتنا الآن أصبح شبيها بالمناطق المعتدلة، ولم يعد ثمة ما يدعو الحضارة في المناطق الاستوائية إلى التخلف عن الركب». لقد أدى تكييف الهواء إلى توحيد أجواء المكاتب وغرف الفنادق (المستقران الأساسيان لحياة رجال الأعمال) في كل مكان. وفي غضون ذلك، مهد تكييف الهواء الطريق لنشوء «السوق الكبير» المول، الذي يعتبر مسرح اللامكان المثير للهزل. وحين تقف في باسيفيك بليس في هونغ كونغ، أو في ميتروسنتر في جيتس هيد، ستجد ان أوجه الشبه تتعدى أسماء المحلات المتكررة (مثل محلات بنيتون ومحلات بودي شوب) إلى المناخ اللطيف، الجاف، وعديم الحياة نوعاً ما.

وهناك اختراع بسيط لا يزيد على صندوق معدني طوله 20 قدما، ترك أثرا أكبر في العولمة. كان عدد كبير من العمال الذكور، في أغلب المدن الكبرى، يعملون على أرصفة الموانئ لتحميل وتفريغ البضائع، من الشاحنات الى المستودعات أولا، ثم من المستودعات إلى السفن ثانيا، لكن أحد الناقلين من كيب فير، في كارولينا الشمالية، يدعى مالكولم مالكين، عرض على أصحاب سفن الشحن عام 1956، ان ينقل عرباتهم على مركبة «ايديل اكس»، التي تبحر من نيويورك في نيوجيرسي إلى هوستون، بعد أن طورها خصيصا لكي تحمل مقطورات الشحن. وسرعان ما أدرك أصحاب السفن ألا ضرورة لأن تكون المقطورات بعجلات. هكذا ولدت الحاويات، التي أخذت، بعد عقد من ذلك، تملأ جنبات سفن الشحن لتمخر عباب الأطلسي. وبهذا اختفى عمال النقل اليدوي من الأرصفة والذين صورت حياتهم خير تصوير في فيلمي «مشهد من الجسر» و«على جبهة الماء».

وبدلا من المئات من عمال التحميل على الأرصفة، لم تعد هذه الحاويات في حاجة إلى أكثر من بضع أياد، وبهذا صارت الحاويات تلقب باسم توابيت عمال الموانئ الأشداء.

ولما كانت الحاويات تصون السلع بصورة افضل، اخذ الصناعيون يتشجعون على استيراد اجزاء صغيرة دقيقة من المصنوعات (يصعب علينا والحالة هذه ان نتخيل مارلون براندو وهو يدمدم بأنه متمرد، فيما هو يحمّل اقراصا مدمجة (كومباكت ديسك) في عنبر سفينة).

الواقع ان 40 في المائة من صادرات اميركا ووارداتها لم تكن في بداية القرن العشرين، أكثر من «أغذية خام» و«مواد خام». أما اليوم فإن %80 من الصادرات هي سلع مصنعة من هذا الصنف أو ذاك.

وفي السبعينات، فرضت ثورة النقل البحري، تحولات مماثلة على البر. وبدأت الحكومات، بمبادرة من أميركا، بتخفيف القواعد المقيدة لصناعات الشحن والبريد، مما سمح للشاحنات بأن تنقل الحاويات من وإلى الموانئ، ومنح خدمات البريد الخاصة مزيدا من الحرية. واستجاب الناقلون بتوحيد الجهود مع سكك الحديد، بل حتى شركات الطيران، فأصبح نقل الحاويات متعددة الوسائل بحق، وباتت الصناديق تتحول بسرعة من وسيلة نقل إلى أخرى. وغدت السفن تقضي، في العادة، 24 ساعة لا غير في الميناء، بعد ان كانت تجثم فيه ثلاثة اسابيع. أما على البر، فإن تكلفة الشحن بالقطارات الأميركية هبطت بين أعوام 1986 و1996، بمقدار الربع. وتقوم شركة ايدفيكس، بمفردها، بنقل نحو ثلاثة ملايين طرد ورزمة في أرجاء العالم.

من جديد قد يبدو ذلك محض مسكّن، لكنه غيّر رؤية العديد من الصناعيين للعالم. فالنقل الأرخص والأسرع فتح أسواقاً جديدة، وشجع حتى الشركات الصغيرة على الانتقال إلى الكونية، كما سمح للشركات بأن تبحث عن «مصادر» مكونات مصنوعاتها حتى لو كانت في أقاصي العالم، وأن تجرب أساليب صناعة المنتجات «في الوقت المضبوط». ولما خف اعتماد التصنيع على المصانع والمستودعات الضخمة، باتت الأعمال ارشق، واخذت الشركات تسند شبكات التجهيز إلى اختصاصيين في الجوستيات «اي النقل والخزن والتموين». فمثلا تدير شركة فيدايكس شبكة توزيع شركة ناشنال سميكوندكستر، وتعمل على تنسيق عمليات تجميع اجهزة كومبيوتر ديل Dell في ماليزيا، وتتولى كل أعمال التخليص الجمركي.

ويبدو أن أي تجديد يطرأ على تكنولوجيا النقل يدعم العولمة، بطرق حاذقة ومواربة تماماً. فالطائرات الأسرع (ناهيك من تخفيف الضوابط المقررة لهوية مسيّرها، وموعد انطلاقها)، تعني ألا وجود لأي مصنع يبعد، مهما نأى، أكثر من نهار ونصف النهار، مما يحد من قدرة أي مدير محلي، مهما بلغ استقلاله، على تحدي الإدارة في المركز، كما أن الكثير من الأفراد يبدون الاستعداد التام لإرسالهم إلى الخارج إن كانوا يعرفون ان بمقدورهم العودة بسرعة إلى بيوتهم. ترى كم من الازواج الممتنعين أُقنعوا بأن مكان ايفادهم ليس بعيدا كما يبدو؟ فقبل عشرين عاما لا غير، كان مجرد التفكير في ركوب الطائرة من نيويورك الى لندن خلال عطلة نهاية الاسبوع لحضور حفل زفاف صديق يعتبر قمة التسيب. اما اليوم، فإن كل موظفي السكرتارية والسباكين يفعلون ذلك!

* الثالوث المحترم

* لا يؤلف الكومبيوتر والهاتف والتلفزيون كل قصة التكنولوجيا، لكن هذه الاجهزة الثلاثة هي التي تبرز في المقدمة. ويرجع ذلك، جزئياً، إلى أنها تجتذب معظم الاستثمارات. ويلاحظ عشرة في المائة من ميزانية شراء الاجهزة في 7 شركات اميركية، كان ينفق على تكنولوجيا المعلومات في عام 1980، اما اليوم فإنها تنفق ما يقرب من نصف هذه الميزانية على تكنولوجيا المعلومات. غير ان هذه الاجهزة الثلاثة هي حجر الزاوية لعصر المعلومات (ان جاز لنا خلط استعارة من الحقبة ما قبل الصناعية بشعار من العصر ما بعد الصناعي). ولما كنا سنتناول أثر التلفزيون في العولمة من الفصل العاشر، فإن علينا معالجة الكومبيوتر والهاتف، فإلى أي مدى يساهم هذان في دفع العولمة؟

لا جهاز من هذين الجهازين غض العود فعمر التليفون يزيد على قرن. أما عمر الكومبيوتر فأطول، إذا اعتبرنا آلة تشارلز باباج الحاسبة أول كومبيوتر. وحتى لو آمنا بأن عصر الكومبيوتر لم يبدأ إلا بظهور آلتير 8800، فإن أول كومبيوتر شخصي دخل الرواج قد بلغ الآن خريف العمر. يقال إن كلا الجهازين لم يتحولا إلى الكونية إلا في التسعينات. ثمة الآن نحو ربع مليار جهاز كومبيوتر على كوكب الأرض، أي جهاز واحد لكل 24 شخصا على وجه التقريب. صحيح ان 40 في المائة من هذه الاجهزة موجودة في اميركا، فإن هذه النسبة في هبوط. وذكرت بعض الاحصائيات المحلية، في عام 1998، ان هناك عائلة واحدة من كل عشر في شنغهاي وبكين تمتلك جهاز كومبيوتر (يبلغ ثمن الجهاز زهاء نصف الاجر السنوي، لكن الصيني، المعروف بتقتيره، واطفاله ـ الاباطرة الصغار المدللين ـ يلحون في طلب الكومبيوتر).

غير أن هذه الشمولية في الحضور لا تعني الكثير من دون شيئين آخرين: وجود الاجهزة الرقمية بشكل عام، ووجود الانترنت بشكل خاص. ففي أيامنا هذه، يمكن تحويل اي شيء عملياً، من الاصوات على الهاتف، إلى الصور على الشاشة، إلى قرارات هيئات المديرين، إلى آحاد وأصفار، أي إلى صيغة رقمية قابلة للتخزين والبث. نعم هناك شيء اسمه لغة عالمية، والحق يقال. وهذه اللغة ليست انجليزية، بل ثنائية. فالكومبيوتر الصيني يلهج بلغة الكومبيوتر الاسباني نفسها، بل لغة الهاتف الرقمي الاسباني.

وفي عام 1990، لم تكن هناك سوى قلة من الاكاديميين قد سمعت بوجود شيء اسمه الانترنت، اما في عام 1999، فقد كان هناك 200 مليون شخص يستخدمونه. ان الشبكة العالمية الواسعة (www) لا تكتفي بأن تتيح للجمهور دخول أكبر مستودعات المعلومات في أي بقعة في العالم، بل تسمح لشتى ضروب الأعمال التجارية بأن تعبر حدود الدول، فتصير بلا حدود. وقد عبر جون تشيمبرز، رئيس شركة سيسكو سيستمز، عن جبروت الانترنت خير تعبير بقوله الوجيز: «سيغير الانترنت طريقة حياة الناس، وعملهم ولعبهم وتعليمهم. لقد جمعت الثورة الصناعية الناس والآلات في المصانع، أما ثورة الانترنت فسوف تجمع الناس بالمعرفة والمعلومات في مصنع افتراضي. وسيعزز الانترنت العولمة بوتيرة اعجازية، غير أن هذه الثورة لن تستغرق مائة عام، كما حدث في الثورة الصناعية، بل ستتحقق في سبع سنوات».

عند هذه النقطة بالذات يتدخل الشك، فقبل سبع سنوات لا غير، كان العديد من المتحمسين للتكنولوجيا يتحدثون بحماس قائلين ان كل اسرة سوف تطلب جهاز فيديو قريباً. الواقع ان اكثر من نصف مستعملي الانترنت يعيشون في بلد واحد، الولايات المتحدة، وهذا يعني ان دوره الكوني محدود، بل الانترنت لم يغير الاعمال التجارية، حتى في الولايات المتحدة، ذلك التغيير العميق، كما تخيله تشيمبرز. اذا رغب المستهلك بشراء الكتب أو الكومبيوترات، أو حتى بعض الأسهم، فإن بمقدوره استخدام الانترنت، لكن الكثير من الشركات لا تزال تعتبر الانترنت بمثابة دمية.

ومن الأسباب المباشرة لهذا التوجس، ان هناك نقصا في سعة نطاق الموجات اللازم لتقديم العديد من الخدمات.

وهناك عراقيل اخرى تنبع من الضوابط المقيدة ومن ذهنية الشركات، كما تنبع من التكنولوجيا. ونجد، على سبيل المثال، ان الحكومة الاميركية قامت بإلغاء الضوابط المقيدة لسوق الاتصالات المحلية في عام 1996، لكن بدلا من ان يحفز ذلك إنشاء شبكات تعتمد الألياف البصرية، او انشاء شبكات تلفزيون الكابلات، راحت الشركات التي تسمى «صغار بيلز» Baby Bells، تنفق معظم وقتها منذ ذلك الحين، لشراء بعضها بعضا.

وبعد ان اقتحمت شركة «اي تي اند تي» AT&T، السوق بشراء معظم شبكات تلفزيون الكابلات الأميركية، برزت بوادر على بدء التحرك. غير أن الميل الأخير الموصل إلى المنازل، لم يكتمل بعد.

وتبدو مواطن الخلل هذه جلية للعيان حين يتذكر المرء مدى تقدم أميركا في هذا المضمار قياساً إلى بقية ارجاء العالم. وتمتاز أوروبا بنقاط قوة: اذ تمتلك فنلندا اعلى نسبة لتغلغل الانترنت في العالم. غير ان القارة (شأن اليابان) تنفق على التكنولوجيا مبالغ اقل مما تنفقه اميركا. وقد بلغت نسبة الكومبيوترات في اوروبا، عام 1996، نحو 52 جهازا لكل مائة موظف «اوروبي»، وبهذا لا تكاد تبلغ نصف النسبة الاميركية. وتعاني انحاء كثيرة من العالم النامي نقصا مزمنا في عدد الهواتف، ناهيك من اجهزة الكومبيوتر. فمثلا ان واحدا من كل عشرة برازيليين، وواحدا من كل 300 افريقي يمتلك خط هاتف ثابتا. ويقل عدد الهواتف في افريقيا السوداء عن عددها في مانهاتن، كما لا تتوفر الا على القليل من البنى التحتية (الهياكل الارتكازية). ويتوجب على المكالمات الهاتفية بين لاغوس وابيدجان ان تمر عبر الشبكة الاوروبية. وهكذا تغدو الشبكة العالمية للانترنت www مجرد دمية اميركية بعيدة المنال.

* حتمية النمو التدريجي

* لن تتغير الاحوال بالسرعة التي يأملها انصار التكنولوجيا، لكنها ستتغير لا محالة. ويرى آرثر كلارك ان الناس عموما تغالي في تعظيم التأثير قصير الامد للتغير التكنولوجي، مثلما تقلل من شأن التأثير بعيد الامد، حصل ذلك ايام انتشار الكهرباء، ويمكن ان يتكرر ذلك مع الانترنت.

لقد بنى توماس اديسون محطته الاولى لتوليد الطاقة الكهربائية عام 1882، لكن استخدام المحركات الكهربائية لتدوير الآلات اقتصر على 3 في المائة من المصانع الاميركية حتى مطلع القرن العشرين، ثم ارتفعت هذه النسبة الى ثلث المصانع في عام 1919. ويقع اللوم، من ناحية، على حرب المقاييس التي نشبت بين التيار المتناوب والتيار المباشر، غير ان المشكلة الاكبر ان الصناعيين، مثل مايتاج، رائد صناعة الغسالات الكهربائية، لم يستخدموا هذه التكنولوجيا الاستخدام المناسب. كانت الكهرباء تستخدم عادة لتدوير محور فولاذي واحد على خط الانتاج، وتتشعب منه احزمة تحريك عديدة. ولم تتحسن الانتاجية باستخدام الكهرباء إلا بعد ابتكار طرق جديدة لاستخدام هذه الطاقة لتحريك كل ماكينة بصورة منفردة، وهو ما حققه مايتاج في منتصف العشرينات. ويشير المؤلفان بوب ديفز وديفيد ويسل في كتابهما «الازدهار»، الى ان اي عامل من عمال مايتاج كان ينتج من الماكينات، عام 1926، ما يزيد بنسبة %48 عن نظيره في عام 1923. وبالطبع فقد تنامت الارباح ايضا.

لا ريب ان الانترنت سينتصر، على المدى البعيد، بفضل مزيج من التكنولوجيا وزخم الاندفاع. وباضطراد تحسن المواصلات، بوسع زوج من الالياف لا يزيد سمكها عن شعرة الرأس ان تنقل كل الاصوات المارة عبر الاطلسي في اية لحظة، سيزداد الضغط على اصحاب المناصب لكي يحركوا ساكنا. وبدلا من قابس الى قابس SWITCH، ستعوم حزم المعلومات الرقمية او الصوتية عبر شبكات غير مربوطة، معتمدة على بروتوكولات الانترنت، من دون ان تترتب على ذلك تكاليف اكثر من اجرة الدخول على الخط، والمتناقصة ابدا، وان هذا النموذج لا يعني بالنسبة لشركات الاتصالات اللاسلكية ضرورة ضخ استثمارات هائلة جديدة فحسب، بل يعني ايضا تبني هيكل ربح جديد كل الجدة. وقد بدأ هذا بالتحقق، ففي اميركا تتحدث شركات «صغار بيلز» عن الحاجة الى ان تحول نفسها في المدى البعيد الى «كيانات شاملة» ـ اي شركات اتصالات ضخمة، متكاملة ـ قبل ان تواجه الانقراض. وفي فرنسا والمانيا، خيار المستهلك يفعل فعله اخيرا. وتحركت معظم البلدان النامية، في هذه الاثناء لتعفي شركاتها البريدية من مسؤولية خطوط الهاتف، وتقفز بسرعة للحاق بالعالم الغني وصولا الى المستقبل اللاسلكي.

ثمة ظاهرة اخرى تحدث اليوم ـ وان يكن ببطء ايضا ـ وهي ان الكثير من اشباه مايتاج اليوم بدأوا باستخدام الانترنت. فمثلا يمكن اتهام شركة جنرال الكتريك بالتأخر في الاعتراف بقدرات الانترنت، غير ان صاحب الشركة، جاك ويلس، قذف بشركته في عام 1999 في ما اسماه «اكبر تغيير رأيته في حياتي». وقد ارسل تحت العنوان الالكتروني التالي:«شركة دمرّ شركتك»، فيضا من المذكرات الرسمية، والخطب والبريد الالكتروني، حمل رسالة واحدة جازمة: «ان لم تغيروا نموذج اعمالكم، جاء غيركم ليفعلها».

شرعت شركة جنرال الكتريك في شراء بعض تجهيزاتها عبر المزادات المفتوحة على شبكة الانترنت. ودخلت طائفة اخرى من المواد ـ مثل كراريس التوجيه الخاصة باستعمال محركات الطائرات، والرسوم الملونة للبلاستيكيات ـ على خط الانترنت بسرعة. لكن التحدي الحقيقي يكمن في استعمال الانترنت لتجديد الاعمال وليس لجعلها انسيابية فحسب. وتتركز الكثير من الافكار الاولى لشركة جنرال الكتريك على الاتصال المباشر بالمستهلكين. فمثلا ان فرع منظومات الكهرباء في جنرال الكتريك تنزع الى ان تصبح «المجهز الكامل للمنزل». ويعني هذا انها مستعدة لأن تقدم للمستهلكين خدمات منزلية عبر الانترنت تشبه خدمة ادارة الكهرباء التي تقدمها لشركات توزيع الطاقة الكهربائية. نقصد انها مستعدة لأن تشتري الكهرباء لمنزلك بأرخص تكلفة متاحة في السوق، وفي ارخص اوقات النهار، وتراقب اجهزتك الكهربائية في المنزل عن بعد (منبهة اياك الى ان الثلاجة بحاجة الى فحص مثلا)، فتتيح لك توصيل او قطع التيار الكهربائي لاجهزتك عبر الانترنت.

من شأن ذلك كله تعجيل خطى العولمة ولعل من بين خصائص الانترنت البارزة، كما هو الحال مع الكثير من الابتكارات التكنولوجية السابقة، قدرته على تقليص اهمية الجغرافيا. وقد رأينا مثالا مبكرا على ذلك حين استطاعت شركة نيت سكيب Net Scape ان تصدر برنامجها الى ارجاء العالم من دون ان تغادر كاليفورنيا، مثلما رأينا مثالا آخر عندما استطاعت شركة «امازون. كوم» Amazon.com ان تتحول الى مجهز وطني للكتب في عموم اميركا من دون ان تغادر ولاية واشنطن. وان معظم زبائن شركة انفوسيس Infusys من الولايات المتحدة علما ان الشركة تعتبر اكبر منتج لبرامج الكومبيوتر في الهند. كل ما في الامر ان مكتب هذه الشركة في اميركا يقوم في نهاية يوم عمله، بأن يبث بالبريد الالكتروني الى مكتب انفوسيس في بانجالور احصاء بقضايا المستهلكين، فيعمل فنيو الشركة على حل هذه القضايا بينما يغط الاميركيون في نومهم ليلا. ترى ما الذي يحدث عندما تستخدم استوديوهات هوليوود شبكة الانترنت لتوزيع افلامها على دور السينما مقابل ثمن زهيد؟ او حين تبدأ المدارس ببث دروسها التعليمية عبر الحدود؟ المعروف ان الجامعة المفتوحة في بريطانيا، المتخصصة في تعليم الكبار الذين فاتهم قطار الدراسة الجامعية النظامية، تدير اكبر مدرسة تجارية في اوروبا، بفضل الانترنت جزئيا. ويرى كريج باريت من شركة انتيل Intel ان الانترنت ستخلق قارة سابعة قوامها مليار كومبيوتر مرتبطة بالشبكة.

اما اكبر واعظم تأثيرات الانترنت فسيمس الاسعار. وهناك حتى الآن عدد من المواد، كالذهب والنفط، ترتكز الى اسعار مقررة عالميا، وهناك فرص ممكنة في ان تحذو مواد اخرى كثيرة حذو الذهب والنفط بموازاة اتساع الانترنت. ويسمح الكومبيوتر على أسوأ تقدير، بأن يقارن الناس بين شتى الاسعار خارج الحدود الوطنية، فيما هم يتبضعون من معروضات كتب دار أمازون، او السراويل الكاكية من شركة كاب Gap، ويسمح لهم، بأن يشتروا من افضل مصدر اينما كان في العالم، مما يقضي بالتدريج على الافراط في التسعير وانعدام الكفاءة باقصائهما عن السوق. ولا تحتاج الانترنت الى ان تتمتع بحضور كلي حتى يفرض سلطان قانون «السعر الموحد». ففي الولايات المتحدة، لا توجد إلا نسبة قليلة من الذين يشترون السيارات او الاسهم من باعة افتراضيين (على الشبكة)، مع ذلك فإن المستهلكين عامة يستخدمون الاسعار المعروضة على الانترنت لمطالب الباعة الحقيقيين في المحلات بأسعار اقل.

* غزو المكان الموضعي

* احتلت الانترنت عناوين الصحف الرئيسية بشكل واسع كاد يغطي على تفرع آخر من ثلاثي الهاتف، التلفزيون، الكومبيوتر، وهو تفرع يكاد يترك اثرا اعظم على العولمة: الهاتف النقال. (لعل مرد ذلك ان الولايات المتحدة تتصدر العالم كله في الكومبيوترات، لكنها متخلفة عنه تخلفا مريعا في الهواتف النقالة)، واذا كان هبوط اسعار الهواتف وتطور الانترنت يتركزان على وأد المسافات، فإن انتشار الهاتف النقال يعتبر مبشرا بـ «غزو المكان الموضعي».

لعل من افظع سلبيات طغيان المكان ان المرء، في عصر المعلومات هذا، يفقد سلطته كلما غادر المنزل او ترك المكتب. بقي هذا سائدا حتى فترة قريبة. وكان المرء يغدو مثل ذلك الابله في فيلم وودي الن، آني هول، الذي يتصل بمكتبه، فور دخوله مطعما ما، ليخبرهم بمكان وجوده. اما اليوم فإن شركات الهواتف النقالة، مثل شركة نوكيا Nokia تتحدث عن قدرة اي انسان على الحياة داخل «كرة شفافة شخصية» من المعلومات، واصطحابها معه اينما حل او رحل.

والمثير اكثر من ذلك، ان الناس الآن، وحتى العالم الناشئ حاليا، يستخدمون الهواتف النقالة للهرب من العزلة، بل ولربما حتى من الفقر. طلعت الهواتف النقالة بادئ الامر كدمية بيد «اليوبي» اي اصحاب المهن الحضريين من الشباب، الصاعدين، إلا انها تزود الفقراء بأفضل اداة للاتصال بسوق العمل الكوني بحثا عن فرص عمل جديدة.

غير ان مثل هذه الافكار السامية لا تدور قط في اذهان اولئك الذين يحومون زرافات خارج مخزن يودوباشي كاميرا في شين جوكو، المنطقة الاكثر ازدحاما وحركة في سائر طوكيو. ويسدد بعض هؤلاء نظرات مولهة الى التلفزيونات ذات الشاشات المسطحة المعروضة في المخزن، والى الكومبيوترات النقالة النحيفة، الرقيقة. غير ان الكل يحدق في الهواتف النقالة المصنوعة بكل الوان قوس قزح، من الابيض بلون اللؤلؤ (المفضل لدى الطالبات) الى الفضي (الذي يحبذه الموظفون) الى الاخضر المبقع الذي يشبه الوان التمويه العسكري. وهناك «جزرات كهربائية» لمن لا يريد اكثر من ان يتجاذب اطراف الحديث، وهناك «لوحات جيب» لمن يحب ان يتبادل الرسائل الموجزة. وهناك «هواتف ذكية» مثل آي ـ مود I-Mode التي تتيح لك بأن تنظم حياتك (بدفاتر عناوين، وجداول مواعيد في الاقل)، وان تتصل بالانترنت طلبا لمعلومة، وان تتابع بريدك الالكتروني.

الواقع ان اغلب من لديهم استعداد لرؤية هذه المعروضات يملكون هواتف نقالة اصلا. فالموظفون يحملونها في اغلفة مجلدة معلقة بأحزمة سراويلهم، والطالبات يعلقنها حول اعناقهن.

وتقول احداهن وهي تكركر: «هاتفي هو جزء من جسدي»، غير ان بعضهم يبحث عن اقتناء احدث موديل او يتمناه على الاقل، بينما يريد آخرون اضفاء طابع شخصي على الهواتف التي يملكونها ويعرض المخزن في مباهاة جهاز الحان يتيح لك ان تغير نغمة رنين الهاتف، فتضع مثلا آخر صيحة في اغاني البوب، مثل اغنية «يا فتيات كن طموحات»، المفضلة في عام 1999.

ويتميز اليابانيون بغيرة متقدة تحمسا لهواتفهم النقالة، لكنهم ليسوا الوحيدين في ذلك، فالالمان يطلقون على هواتفهم النقالة اسم «الصانع»، اما اهل سنغافورة فيسمونه «القريدس» لأن موديلا شائعا منه يشبه القريدس حقا حين يفتح، اما الفنلديون فيسمونه «كانيكا» او «كاني»، وتعني هذه الكلمة استطالة اليد. هناك ثمانية بلدان يملك فيها ثلث السكان هواتف نقالة، وتصل النسبة الى %100 تقريبا وسط الذكور الاسكندنافيين في العشرينات من اعمارهم. اما في هونغ كونغ، فإن صناعة الهواتف تروج لفكرة ان على الشخص الممثل تمثيلا جيدا ان يحمل هواتف نقالة مختلفة باختلاف المناسبات. قبل عقد لا غير، كان عدد الهواتف النقالة لا يزيد على 10 ملايين، اما بحلول عام 2004، فيتوقع ان يصل عددها الى مليار، لتزيد بذلك على عدد الهواتف السلكية الثابتة.

وتتحول صناعة الهواتف النقالة باضطراد من استخدام التكنولوجيا الرقمية الى الرقمية الفائقة السرعة والمرتبطة بالانترنت. وستشهد السنوات الثلاث القادمة دمج ثلاثة اجهزة: الهاتف النقال، الكومبيوتر، والمنظم الشخصي، بهدف حمل جهاز واحد يقوم بهذه الخدمات جميعا.

وبازدياد عدد الأجهزة اللاسلكية المرتبطة بالانترنت، يتوقع ان تترك هذه الاجهزة تأثيرا دراماتيكيا على توسيع شبكة الانترنت في بقاع مثل اليابان. ورغم بطء الارسال، وصغر حجم الشاشات، وصعوبة التعامل مع مفاتيح الاحرف والارقام في العديد من هذه الاجهزة، فإن القدر الاكبر مما يتدفق عن طريق الهاتف النقال هو من المعلومات لا الكلام. ويميل المراهقون الفنلنديون الى الاتصال بالرسائل القصيرة (زهيدة الثمن بشكل خارق) لا بالحديث الصوتي. وفي اليابان، تمتلئ موجات الاثير عند الساعة العاشرة، لدرجة الانغلاق لحظة تبادل المراهقين والمراهقات تحية المساء.

وتتيح الهواتف الذكية لاصحابها تغيير سبل استخدامها للاماكن الموضعية. ولما كانت هذه الهواتف تعرف أين أنت، فإنها تستطيع ان تزودك بالمعلومات عن ذلك المكان. زر مركزا من مراكز التبضع في هونغ كونغ، وسيخبرك هاتفك اين بالضبط يمكن لك عقد افضل الصفقات لشراء اي شيء، من الوجبات الى احذية جوتشي المميزة. توجه الى حانة، وسيقول لك الهاتف ـ شريطة ان تكون قد سجلت اسمك في مكتب خدمات المواعيد ـ ان كان هناك ما يناسب ذوقك. وستطرح هذه المنتجات على نطاق كوني، قريبا.

عند حساب الحصيلة ثمة ما يدعو للحماس للهواتف النقالة، اكثر من الانترنت المعتمد على الكومبيوتر المكتبي. ينبغي لدعاة الحتمية التكنولوجية ان يتريثوا ويلاحظوا ان الميدان خاضع، بالمثل، لسطوة تدخل الحكومة. وبالطبع فإن الاجهزة باتت اصغر، وارخص، وأعمّ فائدة، إلا ان شغف اليابان بها يرجع، على سبيل المثال، الى عام 1994، وهو عام الغاء قانون سخيف كان يحظر على اليابانيين امتلاك هواتف خليوية، مما ارغم أولئك الراغبين فيها على استئجارها لقاء اسعار باهظة، محبطة، تزيد على آلاف الدولارات سنويا. ويرتبط انتشار الهواتف النقالة ايضا بمقدار المنافسة. ففي ستة من أكبر تسعة أسواق ضخمة في آسيا هناك خمس شركات للهواتف الخليوية. بالمقابل نجد أن اسعار المكالمات الخليوية في اميركا اللاتينية تبلغ عشرة اضعاف سعر المكالمات المحلية السلكية، لان الحكومات تعزف عن المساس بالاحتكارات الراسخة.

وان اردت ان تطلع على مؤشر يكشف لك الى أي حد تعطل الضوابط سير العولمة، فما عليك الا ان تلقي نظرة على الولايات المتحدة، دون ان تذهب بعيدا. فاميركا تؤلف أكبر سوق منفرد للهواتف النقالة في العالم، حيث كان يتوفر فيها 80 مليون مشترك بنهاية 1999، غير ان هذا الرقم منخفض جدا، ان أخذناه بالتناسب مع عدد السكان (30%). غير ان الاميركيين يتحملون عبء خدمات هاتفية رديئة (وبخاصة في المدن الكبرى وقت الذروة) وعبء اسعار «عالية» بشكل باهظ، كما ان عليهم (وهذا ما يثير الضحك في هلسنكي) ان يدفعوا ثمن المكالمات الصادرة وان يدفعوا ايضا شيئا لقاء المكالمات الواردة. وهكذا نجد ان محطة توليد التقدم التكنولوجي في العالم متخلفة بمسافة عامين الى اربعة أعوام عن كسالى أوروبا، وهو ما تجلى في عام 2000 بالاندماج القياسي بين شركة فودافون البريطانية ومانزمان الالمانية.

يقع اللوم في هذا التخلف على سلسلة من القرارات الغريبة. فقد استغرق الكونغرس عدة سنوات لبيع اطياف رقمية بالمزاد في النصف الاول من التسعينات. وبدل توحيدها في معيار رقمي قياسي، كما هو الحال مع نظام GSM الاوروبي، اصبحت لاميركا عدة نظم متنافسة. وبينما تعمل كثرة من البلدان الاخرى على اصدار تراخيص قومية للهواتف الخليوية، خلقت لجنة المواصلات الفيدرالية FCC نحو 734 سوقا خليويا حين عرضت الاطياف الرقمية للمزاد اول مرة، ثم اضافت لها 544 سوقا آخر في المرة الثانية.

وينطوي ذلك كله على ان آرثر سي كلارك محق من جديد: إن غزو المكان الموضوعي ما يزال بعيدا، لكنه سيتحقق مع ذلك. ولعل ايريديوم Iridium، وهي أكبر شركة خدمات هاتفية كونية تعتمد الاقمار الصناعية، اكبر شركة قاهرة للمسافات في التسعينات. والتصور الذي ألهم هذه الشركة هو ان تتيح للناس ان يبقوا على اتصال اينما كانوا في العالم، وهي فكرة ليست بعيدة عن التحقق. فالصناعة في هذا المجال تطالب بمعيار جديد لـ «الجيل الثالث» من الهواتف الرقمية، الصالحة للاتصال في أي مكان في العالم. الواقع ان الوقت لن يطول كثيرا حتى يبطل استعمال تعبير «الهاتف النقال»، لسبب بسيط هو انه لن يكون هناك نوع آخر من الهواتف في العالم. ويرى الكثير من الشباب اصلاً ان لا معنى لدفع رسوم تأجير خط ثابت وهم يعيشون حياة متنقلة، ويزداد هذا الميل الشبابي اتساعا ليشمل بقية السكان ايضا بتناقص الفارق بين اسعار خطوط الهاتف الثابت وخطوط الهاتف النقال. وان اليوم الذي سيستغرب فيه الناس الاتصال بمكان معين لأجل التحدث الى شخص معين، ليس ببعيد.

* ليقتاتوا بفضل النقال

* في غضون ذلك، تتيح التكنولوجيا اللاسلكية لبعض فقراء العالم ان يتصلوا بالاقتصاد الكوني، محققين مزايا ومنافع هائلة لتحسين مستويات معيشتهم. ان اربعة أخماس المشتركين بالهواتف النقالة لا يزالون في العالم الغني، غير ان اسرع نمو في امتلاك هذه الهواتف يجري في البلدان النامية، وسط قطاعات بعيدة عن الثراء. في العالم الغني، يميل الناس الى اقتناء الهواتف النقالة لانها مريحة ومناسبة، اما في اغلب بقاع العالم النامي، فان الناس يستخدمونها لانها الانواع الوحيدة المتاحة. فهناك نحو 40 مليون انسان ينتظرون الحصول على خط هاتف ثابت. وهناك بقاع في روسيا ومولدافيا، يصل معدل الانتظار فيها الى 10 سنوات، اما في المناطق المعزولة، فإن الانتظار ابدي، لانه لا توجد اي جدوى اقتصادية، بالنسبة لاية شركة، كي تمد خطوط هاتف ثابتة لخدمة حفنة من الناس.

وقبل فترة ليست بالبعيدة، لم يكن احد يتوفر على هاتف في الصين. اما اليوم فإن الصين تعتبر ثاني اكبر سوق للهواتف النقالة، ووصل عدد المشتركين فيها نحو 50 مليوناً بنهاية عام 2000. وينفق الصيني نحو 400 دقيقة، في المتوسط، على المكالمات شهريا، وهذا المقدار يزيد ثلاث مرات على ما ينفقه الاميركي في المتوسط.

وعلى خلاف شركات الهواتف السلكية، الارضية، لا يتوجب على شركات تشغيل الهواتف الخليوية حفر الحفر، وشق الانفاق لمد الاسلاك الباهظة التكاليف من أجل الوصول الى زبائن قليلين أو معزولين. يقول نيب ماييبا، رئيس هيئة رقابة الاتصالات اللاسلكية في جنوب افريقيا «ان كل ما تحتاجه هو ان تنصب بعض الهوائيات لتبدأ اعمالك».

وفي الارجنتين، استغرقت شركة لوسنت تكنولوجيز خمسة اشهر لا غير لنصب 800 محطة بث في بعض البقاع النائية في البلاد، بما يكفي لايصال الخدمات الهاتفية الى نصف مليون انسان كانوا معزولين عزلة تامة في السابق. وتبدي شركات المواصلات اللاسلكية الاجنبية استعدادها للاستثمار حتى في تلك البلدان التي لا تدرجها الاستشارات الاستثمارية في قائمة الدول الصالحة للاعمال، مثل كمبوديا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا.

وتنسجم الهواتف النقالة بسهولة مع اسلوب حياة الفقراء. فبدلا من اصدار فواتير شهرية، كما هو حال الهواتف الثابتة، تعمل الشركات اللاسلكية على اساس مبدأ البطاقات المدفوعة سلفا. صحيح ان جهاز الهاتف النقال لا يزال مرتفع الثمن، الا ان كلفته واجور ربط الخطوط اقل من تكاليف مدّ خط ثابت، في الكثير من البلدان النامية (ان توفر لك ان تحصل على خط ثابت اصلاً). اضافة الى هذا فإن تكاليف النقال ـ شأن كل الاجهزة الرقمية ـ تهبط باستمرار.

ان بنغلاديش صحراء حقيقية من ناحية الهواتف. فهناك خط تلفوني ثابت واحد لكل 275 شخصا (مقابل خط لكل خمسين شخصا في الجارة، الهند)، كما ان نحو 90 في المائة من قرى البلاد البالغة 68 ألف قرية لا تتمتع بأي خط هاتفي من أي نوع، ويتغير هذا الوضع بفضل صنف جديد من ارباب الاعمال هو: «سيدات الهاتف» اللواتي يؤجرن لك الوقت على الهواتف النقالة. تشتري السيدات احدث انواع الهواتف الخليوية بمبلغ قد يصل الى 375 دولاراً، معتمدات على قرض ميسر من بنك جرامين، وهو مؤسسة خاصة تقدم القروض الصغيرة، الميسرة. ومنذ ان بدأ هذا البرنامج في عام 1997، استطاع ان يجهز 300 قرية بالهواتف. وبعد 5 سنوات من الآن يتوجب على كل شخص في البلاد ان يكون على مقربة كيلومترين من هاتف نقال.

وتعمل الهواتف النقالة، بالنسبة للمزارعين في بنغلاديش، على تحريرهم من الوسطاء. فبدلا من قبول سعر السمسار الوسيط، يلجأ المزارعون الى «سيدات الهاتف» ليستطلعوا الاسعار العادلة للارز والخضر. اما مزارعو الكاكاو والبن في ساحل العاج فقد اعتادوا على بيع منتجاتهم للوسطاء في ابيدجان وياموسكرو بكسر من قيمة منتجاتهم في السوق، نظرا لأن العزلة والأمية تمنعانهم من معرفة اسعار افضل. وتجدهم الآن يتكاتفون لشراء هواتف نقالة حتى يدققوا الاسعار السائدة للكاكاو والبن في سوق السلع بلندن، ويعقدون صفقة أفضل.

* النقال لا يكلّ

* لعل من المغالاة الادعاء بان كل عناصر التكنولوجيا التي تقرب العالم الى بعضه موجودة في دكان جاكسون توبيلا للهواتف في سوويتو، لكن اغلبها حاضر هناك، بشكل أو بآخر. فالدكان نفسه، اذا ابتدأنا به، هو رمز اساسي، وان يكن قديماً، من رموز العولمة، فهو معمول من حاوية قديمة للسفن. ورغم ان صاحب المحل توبيلا، الذي يبلغ العشرينات من العمر واسنانه الذهبية، وبدلته الرياضية ماركة اديداس، لا يستطيع شراء وحدة تكييف هواء، فان لديه مروحة كهربائية على الاقل. ويزدان محله بصور شخصيات مثل، وو ـ تانج كلان، وتوباك شاكور مما سيحمل بعض الاميركيين على الظن بأنهم في غرفة مراهق.

ولسبب غامض فإن كثيرا من الزبائن الذين يتزاحمون على محله من مضيف ومضيفات شركات الطيران، الذين يرتدون ملابس أنيقة تذكره بأهمية النقل وبالطبع فإن كل قطعة من المنتوج الرئيسي للمحل مربوطة بسلسلة، وموضوعة في خانة، انه: هاتف نقال.

تضم سوويتو عددا ملحوظا من محلات الهواتف، التي تؤجر الوقت على الجهاز. كان توبيلا يقدم خدماته بهواتف سلكية ثابتة، الا انها كانت تتعطل (لأن اللصوص كانوا يسرقون اسلاكها النحاسية في غالب الاحيان) ولأن المحتكر القديم للخطوط السلكية الارضية، الشركة تلكوم، لم تكن تعبأ بارسال من يصلح الأجهزة. ويرى توبيلا ان الهواتف النقالة افضل بكثير. بعد انتهاء دوام المدارس، يصل الطابور احياناً الى عشرة اشخاص على كل هاتف. وتوفر هذه الخدمات مورد رزق معقولاً لتوبيلا (يزيده ببيع السجائر المفردة) كما تجتذب آخرين لبيع ما عندهم. هناك اسكافي فتح دكاناً مقابل الحاوية، والى جواره رجل في ثياب اسلامية الطابع يبيع قطع حلوى.

حين منحت حكومة جنوب افريقيا التراخيص لشركتي فوداكوم وموبايل تلفون نتوركس، لتقديم خدمات هاتفية رقمية عام 1993، اصرت على ان تنصب هاتان الشركتان 30 ألف هاتف عمومي في المناطق المحرومة من الهواتف، على مدى السنوات الخمس اللاحقة. وتقدر شركة فوداكوم انها اوجدت، في مجرى ذلك، نحو 5 آلاف وظيفة في التجمعات المحلية، بل ان الشركتين نصبتا هواتف مناطق نائية لا سبيل لشحن الهواتف فيها إلا ببطاريات السيارات والطاقة الشمسية.

ولا تقتصر سوويتو على امتلاك شبكة واسعة من محلات الهواتف (يقع افضل دكان منها قبالة بيت نيلسون مانديلا الأول) بل ان عدداً متزايداً من السود اشتروا هواتف نقالة خاصة.

ان براتي مغوتي ليست بالمرأة الثرية. لقد ربت بناتها الاربع بعرق جبينها وحدها، وهي تدير الآن حانة رياضية وخدمات توزيع مأكولات. وهي تحمل هاتفها النقال الخاص (من نوع موتوريلا) مثلها مثل بناتها الاربع، حتى أصغرهن التي لا يزيد عمرها عن تسع سنوات. وتقول: «الهاتف النقال ضروري اذا كان الشخص مشغولاً».

ويتيح لها الهاتف ان تتلقى مكالمات الزبائن اثناء تجوالها خارج البيت، وان تعرف حركة بناتها من والى المدرسة، وبخاصة في حال بقاء الصغيرة لأخذ دروس اضافية حتى وقت متأخر.

وهناك من هم افقر من مغوتي، مع ذلك فإنهم يملكون هواتفهم الخاصة. ويجد المرء في كثير من احياء جوهانسبرغ ان الشوارع تحفل باعلانات مكتوبة بخط اليد عن خدمات شتى، من دهان البيوت، الى رعاية وتشذيب الحدائق المنزلية، لكنها جميعا تحمل ارقام هواتف نقالة، وكثيرا ما يتكاتف عدد من الفقراء لشراء هاتف نقال وبطاقة مكالمات. ويستطيع هؤلاء تلقي المكالمات مجاناً، حتى بعد نفاد قيمة البطاقة.

تقع سوويتو على مسافة بعيدة من بيت ماركوس دي فيرانتي. ففي سويتو تخور الجياد والابقار في الازقة الفردية، في حين ان اغلى السيارات تنهب وتتسابق الى محلات التفكيك لأخذ قطع الغيار. مع ذلك فإن فيرانتي وتوبيلا هما جزء من الثورة الواحدة نفسها.

والحق، ان زبائن فيرانتي لا يقتصرون على شركات الهواتف من العالم الثالث، بل يشملون ايضا اقرب معادل غربي لمحلات الهواتف: شركات صغيرة، تستقر في مدن تعج بالمهاجرين، كما في برادفورد، وتقدم خدمات هاتفية خاصة وبطاقات مكالمات مدفوعة الاجر للاتصال بأوطانهم.

لقد اكتشف فيرانتي وتوبيلا، في الجوهر، شيئاً مشتركاً، وهو ان بمقدورهما الحصول على عدد ملحوظ من الزبائن بتسويق التكنولوجيا الحديثة، ومعارضة المؤسسات القديمة للاتصالات اللاسلكية. وينظر كل واحد منهما الى نفسه باعتباره منظم عمل اساساً، يعمل من منزله، أو من حاوية في الشارع، بدل ان يصير موظفا مطيعا في شركة. ويستخدم الاثنان التكنولوجيا نفسها، بطرق متباينة، لجعل العالم مكاناً أصغر.