مطعم سعودي يسترجع حضارة بلاد البيروني والفارابي والخوارزمي

من خلال الأطباق المقدمة والموسيقى والديكور

TT

لا يكاد يمر يوم السعودي من دون أن يتناول الكبسة بأنواعها، سواء في وجبة الغداء أم العشاء. وغالبا ما يقع الاختيار على الطبق الشعبي «الرز البخاري» الخالي من البهارات والمتصدر قائمة «التوب تن»، وقد عرفه السعوديون بلونه الأحمر منذ ما يقارب الـ 70 عاما مع هجرة أهل بلاد بخارى (أوزباكستان وتركستان) من بلادهم إلى بلاد الحرمين اثر الاضطهاد السوفييتي آنذاك.

وسرعان ما أحب السعوديون الأكلات البخارية بأنواعها التي انتشرت في مطاعم شعبية في بلاد الحجاز ومن ثم انتشرت في جميع مدن وقرى السعودية ووصلت إلى دول الخليج والدول العربية الأخرى كبلاد الشام ومصر والمغرب متنقلة مع الحجاج والمعتمرين الذين يحملون في جعبتهم لقطات تذكارية من السعودية في كل مرة. ولكنهم في مرات حملوا مقادير الأكلات البخارية وطريقة طبخها. أما انتقالها إلى بلاد اندونيسيا والفلبين والهند وسيريلانكا فيعود إلى العاملات المنزليات اللاتي خدمن في السعودية وتعلمن طبخ هذه الأكلات ونقلنها بالتالي إلى بلادهن وكذلك عرفها الأميركيون بسبب هجرة هذه الجاليات إليها.

من أشهر أصناف أطباق بلاد ما وراء النهرين ـ باستثناء الرز البخاري ـ «المنتو» الذي يطبخ على البخار وهو مكون من الدقيق الأبيض، ويعجن بالنشابة ويقطع دوائر ثم يحشى باللحم المقطع قطعا صغيرة جدا مع البصل ويقرطس باليد. ومن الأصناف المشهورة أيضا (سمبوسة فرموزا، وشوربة الشوشبرك والمنجيزا، واليغمش).. هذه الأطباق هي الأخرى بدأت تتحرر تدريجيا من المطاعم الشعبية التقليدية الشبيهة بمحلات الفول، وصارت تقدم في مطاعم للأكلات الشعبية بطريقة عصرية على أطباق من الزجاج الملون مصحوبة بمشروب الكولا فقط من دون مقبلات تذكر.

وحاليا، مع التطور الذي تشهده مطاعم مدينة جدة بدخول الأكلات العالمية ذات الخدمات الفندقية الراقية، كان لا بد للأكلات البخارية أن تدخل حلبة المنافسة هي الأخرى، وشهدت ولادة مطعم «تاريم» للأكلات البخارية الواقع في حي سكني راق يجاوره المركز الترفيهي «آيس لاند» ومقهى «ستاربكس» و«سلطان مول».

فلنتجول معا في «تاريم»، ولنلق نظرة على ثقافة بلاد الخوارزمي مؤسس علم الجبر ومبتكر اللوغاريثمات، والفيلسوف الفارابي أول من نقل كتب أرسطو وشرحها، وابن سينا، والإمام البخاري ومسلم. شجرة كبيرة تقع عليها عين الزائر في مدخل المطعم تشبه إلى حد كبير شجرة «فلونة» الشخصية الكرتونية المقتبسه قصتها عن رواية روبنسون كروز.

في حال اصطحابك لأسرتك ستتجه إلى يمين الشجرة وتصعد بضع درجات من خشب الزان مزنرة بدرابزين من خشب البامبو الفلبيني، لتجد نديم بابتسامته الآسيوية في استقبالك مرتديا بنطالا أسود وقميصا قطنيا منقوشا بخيوط مزخرفة تمثل الزي التقليدي لبلاد بخارى، وإلى جواره ركن جداري «الفترينة» التي تضم على رفوفها أنتيكات وتحفا فخارية قديمة.

وإذا أردت أن تتعرف إلى عادات بلاد «قشقر التركستانية»، فعليك التوجه إلى يمين السلم الصاعد بك للطابق الأعلى الذي يحوي جلسات أرضية ترتفع عن الأرض ببضع درجات خشبية، يتدلى من عريشها الذي يزين أسقفها عناقيد من العنب، جلسات تشبه إلى حد كبير البلكونات تتكون من غرف صغيرة لا تتجاوز مساحاتها مترا في متر ونصف المتر، ويفصل بين غرفة وأخرى جدار خشبي شبيه بالدرابزين لا يزيد ارتفاعه عن نصف المتر. ولن تشعر بأنك في عالم آخر وأنت تجلس على الأرض مسندا ظهرك على الوسادات القطنية المطرزة تطريزا يدويا، وعيناك تفحصان الطاولة الخشبية ذات الأرجل القصيرة (طبلية)، وعليها أوان نحاسية تمثل التراث القشقري. وما يميز المائدة وجود أقداح لشرب الشاي الأخضر تماثل الأواني التي تقدم فيها الشوربة بأحجام صغيرة جدا تشبه إلى حد كبير فناجين القهوة العربية.

أما إذا أردت الاستمتاع بمأكولات بخارية على جلسات عصرية أكثر راحة فما عليك سوى التوجه إلى الصالة الأخرى التي تحكي عن مدينة «آروم شيك» التركستانية، طاولات بجوار بعضها البعض ومقاعد من الخيزران الماليزي تضاهي المطاعم الأوروبية بذائقة بخارية.

«تاريم» لم ينس الشباب الذين يشتهون هذه الأكلات بمفردهم.. نزولا إلى يسار شجرة الاستقبال ثمة صالة خصصت للشباب، واسعة المساحة، مطلة على شلال اصطناعي مسقوفة بقماش كحلي اللون، مزخرفة بفجوات تشكل ورودا تزين السقف ينفذ الضوء الخافت خلالها.

وما ان تختار مقعدك سيقدم إليك الجرسون قائمة الطعام التي تحتوي على 50 صنفا تتنوع بين المقبلات، ومن أشهرها «اللامبو» والسلطات الخضراء والشوربات، ومنها «المنجيزا» والأطباق الرئيسية المعروفة، إضافة إلى تلك التي لم تحظ بنصيبها من الشهرة، والفواكه الطازجة والمثلجة ـ البديل الطبيعي عن الحلويات والآيس كريم، وعليك أن تختار كما تشاء من دون أن تتأكد مما تدخره محفظتك، فالأسعار هنا متوسطة، وتستطيع أن تتناول وجبة العشاء بسعر لا يزيد عن 200 ريال، إضافة إلى الخدمة.

وخلال انتظارك للطعام ستستمتع بموسيقى بلاد البيروني، عالم ومبتكر قاعدة البيروني في علم الرياضيات، وهي معادلة لقياس محيط الأرض، وستتجول عيناك مسحورتين بالآلات الموسيقية التراثية المعلقة على جدران الصالة، ولوحات قماشية أخرى مرسوم عليها فتيات يتمايلن طربا ويعزفن على القيثارات، وأخرى لرجال يمتهنون بعض الحرف اليدوية السائدة في ذلك الوقت، ولوحات تقص للناظر تاريخ هذه البلاد الإسلامية.

وبعد مضي أقل من 10 دقائق، ستملأ الطبلية بالمقبلات من سلطات وشوربة. وستعجبك الأطباق الصينية الفخمة، ثم يتحرك أنفك تلقائيا لرائحة الطبق الرئيسي الساخن، وعيناك تكادان تدمعان من البخار الصاعد من فوهته. وبعد تناول الطعام والحلويات سيقدم إبريق الشاي الصيني بالياسمين مع أقداحه الخاصة ليسهل عملية هضم الطعام.

ولن يتأخر عنك مشرف المطعم الأوزبكي في سرد تاريخ هذه البلاد المنجبة للعلماء الذين عرفهم التاريخ الإسلامي، وهو يتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة وسيودعك عند خروجك متمنيا أن يكون الطعام قد نال إعجابك ـ أتعده بالزيارة مرة أخرى؟ أراهن على ذلك.