«الشعبنة» تحايل على الزمن لجمع شمل العائلة

بين توديع شهر واستقبال آخر سهرات سمر وطرب

TT

التحضيرات التي تسكن كل شارع من شوارع المدن الحجازية في آخر أيام شعبان، أو كما يسميها الحجازيون «الشعبنة» تحيلك فجأة إلى ليلة من ليالي الأعياد، مع ما يصاحبها من انتشار الصبيان في المحلات والأسواق، حاملين بأيديهم أكياس البلاستيك بلونها الأزرق المميز، لتلبية حاجات ربات البيوت، محملة بكل ما لذ وطاب من قطع اللحم النيئ إلى الخضروات، والنقل «الحمص واللوز والفستق والكاجو والقعقع».

سعاد مكي، أو كما يناديها أهل الحي، خالة سعدو، تتذكر أيام الشعبنة بكل ما كانت تحمله من متعة قائلة: «تقضي النساء نهار الشعبنة من الصباح في المطبخ لتفريغ الزنابيل من محتوياتها، وتبدأ عملية الطهي لرز المندي أو الكابلي والزربيان، الذي اشتهر المكيون خصوصا بطبخه، ثم إعداد السلة التي تحوي فناجين الشاي الصغيرة وملاعق الأكل والصحون مع الأكياس المحملة بما لذ وطاب من الحلويات للصغار والكبار على السواء، وخزانات المياه». وما بين تفريغ الزنابيل إلى ملء السلال، مسافة زمن جميل تفنن فيه أهل الحجاز للتحايل على الزمن، باختراع مناسبات تمكنهم من لم شمل العائلة التي فرقتها الحاجة للرزق.

وكانت الأسر الحجازية تتحضر في مثل هذه الأيام لإقامة المآدب في النهار أو ما تعارف عليه أهل الحجاز بـ«القيل»، كما أشار لذلك العم سليمان خضري، «تمتد سفر الطعام على الأرض بعد فرشها بالحنابل الحمراء في المزارع القريبة والمتاخمة لمكة»، وهربا من حرارة الشمس اللاهبة كانت أودية «الجموم» قبلة العوائل المكية للشعبنة، لما تتميز به من طقس جميل، وأشجار النخيل المنتشرة على طول الطريق، التي كانت تشكل متعة للمسافر عبره، إلى جانب «دف زيني، عين شمس، هدا الشام، سولا والمضيق، المغاربة»، وهي اسماء قرى لأماكن اعتاد أهل مكة ارتيادها في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، لكثرة وجود الآبار والمزارع بها، للتسلية وقضاء الأوقات الجميلة.

وبين توديع شهر شعبان واستقبال شهر رمضان الفضيل، تكمن مفارقة الشعبنة، التي تتأرجح بين الاستعداد النفسي للعبادة وعزوفها عن ملاهي الدنيا بالحد الأدنى، فمن سهرات السمر التي تقام على شرف الشعبنة مع ما يصاحبها من الطرب الشجي، الذي تصدح أصوات مطربيه في أمسية شعبانية تعطر أجواءها رائحة المندي، إلى أصوات صياح محترفي بشكات «البلوت»، الذين يجدونها فرصة للاجتماع مع الأقرباء والأهل.

والشعبنة التي تراوحت تقاليدها اليوم بين مخيمات البر أو التجديف عبر عباب البحر مع الأصدقاء، وقد غلب عليها الطابع الذكوري، فمن الاستراحات التي باتت تحتضن هذه التجمعات بكل مظاهر الترف الشعبي التي تكتنفها روائح الشواء، إلى فنادق الخمس نجوم لذوي المقام الرفيع على أنغام موسيقى شوبان، في حين اكتفت النساء بالسمر المتاح داخل الأجواء المنزلية والرقص على آهات نانسي عجرم مع الصديقات والقريبات في مناسبات أقل ما يقال عنها «مجالس حريم»، بعد أن كن يفترشن الأرض على مقربة من الرجال لا يفصل بينهما سوى مقدار شبر من الأرض، يقتسمن معهم لحظات الفرح والضحك بين توديع شهر واستقبال آخر.

وفرحة الصغار وهم يتقاطرون لركوب سيارات «الجيمس» الكبيرة في الزمن القديم منتشين بحلوى الشعبنة الملونة، تتقاطع مع فرحة اليوم التي تتقاسمها المطابخ الشعبية مع أصحاب محلات تأجير لوازم الأفراح والمناسبات، التي تتحين فرصة قدوم الشهر الفضيل، في استثمار مثل هذه المناسبات في الترويج لتنشيط تجارتها، التي يشير محمد سندي صاحب محل تأجير، إلى أنها باتت غير مربحة كثيرا، خصوصا مع وجود الفنادق والمتنزهات التي أغنت الكثيرين عن الإيجار، إلا أنه وكما أوضح «لا نزال نحتفظ ببعض الزبائن القدامى».