«موائد الرحمن».. من أيام أحمد بن طولون إلى عصر «التوصيل للمنازل»

المصريون ينفقون عليها مليار جنيه سنويا

TT

تعد «موائد الرحمن»، من أكثر العادات الرمضانية المتعارف عليها في الوطن العربي بصفة عامة، وفي مصر بصفة خاصة، وتأخذ «موائد الرحمن» في مصر، بعدا اجتماعيا شديد العمق والتأثير في التكافل الاجتماعي وتوطيد اواصره، حيث يتهز الكثير من المصريين فرصة حلول الشهر الكريم، ليقيموا هذه الموائد كل على سعته كنوع من الصدقة وفعل الخير، وان كانت احيانا تتخذ شكلا من اشكال الواجهة الاجتماعية والتفاخر بين الأسر. وتقام موائد الرحمن في مصر في مختلف الأحياء والمناطق، سواء المناطق الراقية أو حتى الشعبية منها، وإن كانت تتركز بشكل أكبر في المناطق الراقية كالمهندسين، والزمالك، ومدينة نصر، ومصر الجديدة، وجاردن سيتي، والدقي.

وقد عرفت موائد الرحمن لأول مرة، كما يردد كتاب التاريخ، في العصر العثماني، وكانت تحمل اسم «الموائد السلطانية»، ليتغير اسمها الى «الموائد الملكية» فى النصف الأول من القرن الماضى، ثم اختفت مع ثورة يوليو، حتى عادت من جديد في منتصف السبعينيات من القرن الماضي أيضا.

وان كانت هناك روايات أخرى تؤكد أن الأمير «أحمد بن طولون» مؤسس الدولة الطولونية، هو اول من أقام «موائد الرحمن»، وكانت البداية حينما اقام حفل إفطار، دعا إليه الأعيان وكبار رجال الدولة وتجار المحروسة، وعندما وصل المدعوون الى الحفل، إذا بهم يجدون إلى جوارهم عددا كبيرا من فقراء مصر، جاءوا بدعوة من الأمير أيضا.

في ذلك اليوم، أبلغهم ابن طولون، أن المائدة ستستمر طوال أيام شهر رمضان، لاستقبال الفقراء والمساكين وعابري السبيل، وحث ابن طولون الأعيان وكبار التجار، على أن يقتدوا به، ومن يومها أصبحت موائد الرحمن، معلما مصريا رمضانيا، ثم عربيا وإسلاميا.

وهناك من يقول، نقلا عن المقريزي، إن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، كان أول من وضع تقليد الإكثار من المآدب الخيرية في عهد الدولة الفاطمية، وهو أول من أقام مائدة في شهر رمضان، يفطر عليها أهل الجامع العتيق «عمرو بن العاص»، وكان يخرج من قصره 1100 قدر من جميع ألوان الطعام، لتوزع على الفقراء.

ويحكي المقريزي أن القصر الشرقي الكبير، كانت فيه قاعة أطلق عليها «قصر الذهب»، وكان الخلفاء يتخذونها لجلوسهم وأعدوها لولائم الإفطار في رمضان، فإذا جاء وقت الغروب، مدت الموائد وحليت بالأزهار، ونسقت عليها أنواع المأكولات والحلوى والقطائف.

وفي العصر الفاطمي، كانت تمتد آلاف الموائد المليئة بأطيب الطعام للصائمين غير القادرين، أو عابري السبيل، في صورة رائعة تجسد جوهر ما دعا إليه الدين الحنيف، من تكافل وتراحم، وكان الخليفة العزيز بالله، ومن بعده المستنصر بالله يهتمان بموائد الإفطار، التي تقام في قصر الذهب للأمراء ورجال الدولة، وكذا التي تقام في المساجد الكبرى للفقراء والمساكين. وفي العصر الفاطمي أيضا، بنى الخليفة الفاطمي العزيز بالله، دارا سميت «دار الفطرة» خارج قصر الخلافة بالقاهرة، وقرر فيها صناعة ما يحمل إلى الناس في العيد من حلوى وكعك وتمر وبندق، وكان يبدأ العمل بدار الفطرة من أول رجب، إلى آخر رمضان، ويستفيد منها الأمراء والفقراء، حيث توزع عليهم أصنافها كل على قدر منزلته، ويقوم بالتوزيع مائة فرّاش، وكان يعمل في هذه الدار مائة صانع للحلوى وغيرها من المأكولات، علاوة على ما هو مرتب لخدمتها من الفراشين الذين يحفظون رسومها ومواعينها، وكان يصرف على أجرة الصنّاع والمواعين خمسمائة دينار، أما ما يفرق على الناس فكان يصرف عليه ـ كما قال بن الطوير، سبعة آلاف دينار، وقال غيره عشرة آلاف، وجرت العادة في هذا العصر أن يحضر الخليفة الفاطمي العزيز بالله، إلى دار الفطرة، ومعه الوزير، فيجلس الخليفة على سريره، ويجلس الوزير على كرسي، وذلك في النصف الثاني من شهر رمضان، ويدخل معهما قوم من الخواص، ويشاهد الخليفة ما بالدار من الحواصل المعمولة المعبأة مثل الجبال من كل صنف، فيفرقها من ربع قنطار إلى عشرة أرطال إلى رطل واحد وهو أقلها، كل على قدر منزلته، وذلك في أوانٍ لا تُرد، ثم ينصرف الخليفة ووزيره، بعد أن ينعم على مستخدمي الدار بست، وقد اشتهر العصر المملوكي في مصر بتوسعة الحكام على الفقراء والمحتاجين في شهر رمضان، ومن مظاهر هذه التوسعة، صرف رواتب إضافية لأرباب الوظائف، ولحملة العلم والأيتام، ولا سيما من السكر، حيث تتضاعف كمية المستهلك منه في هذا الشهر، بسبب الإكثار من عمل الحلوى.

واشتهرت في هذا العصر، الأوقاف الخيرية، التي كان يخصصها الأمراء والسلاطين لإطعام الفقراء والمساكين في شهر رمضان عن طريق موائد الرحمن، وتوزيع الطعام المجهز عليهم، والذي كان يشتمل على اللحم والأرز والعسل وحب الرمان، فقد نصت وثيقة وقف السلطان حسن بن قلاوون على الآتي: «يصرف في كل يوم من أيام شهر رمضان، عشرة قناطير من لحم الضأن، وأربعون قنطارًا من خبز القرصة، وحب الرمان وأرز وعسل وحبوب وتوابل، وأجرة من يتولى طبخ ذلك وتفرقته، وثمن غير ذلك مما يحتاج إليه من الآلات التي يطبخ فيها، فيطبخ ذلك في كل يوم من أيام الشهر الكريم». أما في العصر الحديث، وتحديدا في عام 1967 فتولى بنك ناصر الاجتماعي في مصر، الإشراف على موائد الرحمن بشكلها الحالي، في المساجد المختلفة من أموال الزكاة، وكان أشهر تلك الموائد، المائدة المقامة بجوار الجامع الأزهر، والتي يفطر عليها أكثر من 4 آلاف صائم يوميا، وبعد ذلك بحوالي عشرة أعوام، امتدت مشاركات الوزراء ورجال الأعمال ورؤساء الجامعات، وكان من بينها مائدة البابا شنودة بطريرك الكنيسة المصرية، وهي دليل حي على المشاركة الوجدانية بين المسيحيين والمسلمين.

واليوم اختلفت ايضا اشكال اقامة موائد الرحمن، فلم تعد تتخذ الشكل التلقيدي المتعارف عليه قديما، بل أصبح هناك خدمة التوصيل للمنازل للأسر المحتاجة والمتعففة عن الجلوس في موائد الرحمن بين العامة، خاصة السيدات الأرامل والذين يعولون أطفالا يتامى.

وعن ذلك يقول الحاج سيد عبد العال، أحد القائمين على جمعية خيرية اسلامية تنفذ موائد الرحمن بهذا الشكل المبتكر: لقد لجأنا الى أسلوب جديد في اقامة موائد الرحمن، وهو استحداث توصيل طعام الإفطار الى الأسر الفقيرة، والتي يكون في الغالب عدد أفرادها كبيرا، ولا يستطيع رب الأسرة أن يصطحبهم معه الى المائدة، خاصة اذا كان بينهم بنات أو سيدات.

ويضيف قائلا: هذا بالاضافة الى أن هناك العديد من اليتامي الذين تخدمهم الجمعية، من خلال معونات أهل الخير وتبرعاتهم وكفالة اليتيم، لذلك فنحن نملك قوائم بطبيعة حياة هؤلاء السيدات، وكم طفل يعولن وهن اولى كثيرا من الاسر، التي بها رب أسرة للاعالة، لأنه ليس من المعقول أبدا أن تذهب سيدة وأطفالها إلى مائدة رحمن، وأن فعلتها مرة، فلن تستطيع تكرارها.

ويقوم مندوبو الموائد، بتوزيع وجبات الإفطار الجاهزة من خلال دراجة نارية صغيرة، يوجد به صندوق لحمل الطعام، مثل الدراجات المجهزة لخدمة التوصيل للمنازل في المطاعم السريعة، ولا تقتصر هذه الوجبات على الفقراء والمحتاجين فقط، بل تشمل العاملين في المحال التجارية والمجندين، الذين يحرسون الأبنية والبنوك، وعابري السبيل في المقاهي والشوارع، وبعض المسنين وكبار السن الذين لا يجدون من يعولهم.

وهناك بعض الجمعيات الخيرية، تقوم بعمل كوبونات توزع على الفقراء والمحتاجين، وهذه الكوبونات، تكون بقيمة معينة، يتكفل بها احد اصحاب المطاعم بالمنطقة، متبرعا في يوم او اثنين كل حسب مقدرته، وبذلك يذهب المحتاج الى هذا المطعم، الذي وزعنا كوبوناته ويتسحر، بناء على ما يجود به صاحب المطعم، وما أعطاه من ذمته لهؤلاء الصائمين.

ويصل مقدار ما ينفقه القائمون على موائد الرحمن، خلال شهر رمضان في القاهرة وحدها، إلى مليار جنيه، حسب دراسة حديثة أعدتها لجنة الفتوى بالأزهر. وفي دراسة أخرى أعدتها جامعة الأزهر، أن عدد رواد موائد الرحمن في مصر يقدر بـ5% من مجموع السكان (أي حوالي 3 ملايين مواطن)، كما بلغ عدد منظمي موائد الرحمن، ما يقرب من 10 آلاف شخص، ينفقون على موائد القاهرة مليار جنيه، ومليارا آخر في بقية المحافظات.