العوامات القديمة فوق سطح النيل لا تجد من يكاتبها

ثرثرة فوق النهر في مصر

TT

«إمتى الزمان يسمح يا جميل، واقعد معاك على شط النيل» موسيقى هادئة تتسلل من احدى العوامات القديمة الرابضة فوق نيل منطقة العجوزة مع صوت رخيم يترنم بأغنية قديمة يحاول أن يستعيد الزمان الذي ولى.. بجوار هذه العوامة عوامة أخرى تبدو مطفأة الأنوار، مهجورة تماماً تتكاتف حولها بقايا طعام، ولكن الصوت القديم حاملاً الأغنية يصل إليها في شكلها القديم وهي تطل على بنايات الزمالك الفاخرة، ولكن يبدو أن هذا الزمان الذي تتكلم عنه الأغنية لا يريد أن يرجع، ولن يعود أصحاب هذه العوامات للتطلع ثانية منها إلى صفحة النيل.

عوامات النيل، هي أحد معالم القاهرة في القرن الماضي، بل أحد أهم معالمه، ففيها كانت تشكل حكومات، وتؤخذ قرارات سيادية، وفيها كانت توجد صفوة المجتمع من مثقفين وفنانين وصحافيين، لكن لأن «دوام الحال من المحال» كما يقول المثل الشعبي، فإن هذه العوامات أصبحت مجرد شاهد على زمن مضى.. تحاول أن تتذكره فقط.. خاصة بعد أن هجرها علية القوم إلى مناطق أكثر رقياً.

وتعود نشأة العوامات فوق صفحة النيل إلى أوائل القرن الماضي، وكان معظمها مملوكاً للراقصات، ولعلنا نذكر جميعاً ثلاثية الروائي الكبير نجيب محفوظ والسهرات التي كان يقضيها بطل الثلاثية السيد كمال عبد الجواد في عوامات الراقصات، ومن أشهر هذه العوامات التي انقرضت عوامة الراقصة الشهيرة بديعة مصابني في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وكانت تقع أمام فندق شيراتون القاهرة، وكان يجتمع فيها صفوة أهل الفن في ذلك الحين مثل محمد عبد المطلب، وتحية كاريوكا، وسامية جمال، وأسمهان، وفريد الأطرش في بدايته، بالإضافة إلى عدد كبير من السياسيين لدرجة أنه كان يقال وقتها إن الحكومة تتشكل في عوامة بديعة مصابني.

هناك أيضاً العوامة الشهيرة للفنانة منيرة المهدية في أوائل القرن الماضي وهي العوامة رقم 155، وقد قالت في تصريحات لها قبل وفاتها «لو فكر صحافي ان يسترق السمع إلى صالوني في تلك الفترة لاستطاع معرفة أخبار البلد ولكن أحداً لم يفكر يومها أن مجلس الوزراء ينعقد في عوامتي».

وبلغ عشق منيرة المهدية لعوامتها أنها في سنة 1963 باعت فيلاتها بمنطقة مصر الجديدة بمبلغ 6 آلاف جنيه وسيارتها وجاءت لتعيش في العوامة، لكنها تركت الماء وعادت إلى البر مرة أخرى بعد أن غرقت عوامة جيرانها. «كل شيء راح» هكذا قالت لي الحاجة إخلاص التي تسكن احدى عوامات النيل الآن، وأضافت «زمان هذه المنطقة كانت لا تتوقف، وأنوار العوامات لا تطفأ أما الآن فأصبحت عرضة للقيل والقال». تعترف إخلاص أن الفنانين وكبار السياسيين عندما كانوا يسكنون العوامات كانوا يعطونها وضعاً خاصاً، كان يستفيد منه سكان باقي العوامات، وسكان المنطقة أيضاً، وأضافت: لكن المشكلة أن العوامات أصبحت تطل على مناطق شعبية، فكيف يخرج المسؤول من عوامته ليجد أمامه سائقي الميكروباصات.

62 عاماً عاشتها إخلاص في العوامة شاهدت فيها الكثير.. وتحفظ الكثير من الأسرار، لكنها أخبرتني في البداية أن هناك نوعين من العوامات نوع ثابت لا يتحرك من مكانه.. وهو عادة يكون من الخشب مكون من طابقين ومهيأ للسكن تماماً.. ومن الممكن أن تكون في الطابق 4 حجرات يطل معظمها على النيل ومن الممكن من نوافذها أن تمارس الحاجة إخلاص هوايتها في التطلع إلى بنايات الزمالك المقابلة الفخمة أو صيد السمك بسنارة صغيرة.

النوع الثاني من العوامات يحتوي على موتور ينتقل بها من مكان إلى مكان، وكان أصحاب مثل هذا النوع من العوامات يتجهون بها إلى الشواطئ خلال فصل الصيف خاصة مصيف رأس البر، وكان هذا النوع يعرف باسم «الدهبية» وأشهرها دهبية الفنان فريد الأطرش التي قام فيها بتأليف أغلب ألحان أغانيه، كما كانت المكان المفضل له لمقابلة أصدقائه من الفنانين والفنانات، لكن مصير هذه العوامة يبدو محزناً، خاصة إذا علمنا أن ورثته لم يهتموا بصيانتها والحفاظ عليها بعد وفاته، حتى أنهم امتنعوا عن تسديد الرسوم المطلوبة عليها لأجهزة الدولة فتحولت إلى كهف مهجور مما اضطر شرطة المسطحات المائية إلى سحبها من الماء نهائياً وتفكيكها وبيعها خردة عام 1982 .

من أشهر العوامات عوامة نجيب محفوظ التي اشتراها بعد أن كتب عن عشرات العوامات في رواياته، لعل أشهرها في روايته «ثرثرة فوق النيل»، وقد عاش محفوظ في عوامته على شاطئ نيل القاهرة قرابة الـ25 عاماً ، وكان قد اشترى الدور الثاني من العوامة التي يمتلكها حسن دياب باشا، وأنجب ابنتيه في العوامة وكتب بها العديد من رواياته الشهيرة مثل «أولاد حارتنا» و«اللص والكلاب» و«السمان والخريف».

الحاجة إخلاص قالت لي إن البكباشي زكريا محيي الدين هو السبب وراء إزالة العوامات من نيل القاهرة.. وأضافت كان عددها يبلغ حوالي 500 عوامة، وأذكر الآن منظرها وأنا صغيرة ، كانت متراصة كأنها حبات مسبحة في شكل بديع تنير ليلا ويرتفع منها الصخب حتى تشعر بالدماء تجري في عروقك.

وحكت لي الحاجة إخلاص أن في بداية الخمسينيات كان البكباشي زكريا محيي الدين يمارس رياضة التجديف في النيل كل جمعة وكانت العوامات تضيق مجرى النيل فأصدر قراراً بازالتها، وفي عام 1966 صدر قرار بنقل 65 عوامة من شاطئ العجوزة إلى امبابة واعدام 37 عوامة أخرى.. ومع مرور الزمن لم يتبق من الـ500 عوامة سوى 23 فقط 9 عوامات فقط مرخصة منها.

«الزمان يدور ولا شيء يبقى على حاله».. هكذا رددت الحاجة اخلاص قبل أن أتركها.. لكن أثناء سيري على كوبري 15 مايو المؤدي إلى الزمالك.. كنت أرقب العوامات في زيها الباهت .. ملابس منشورة .. امرأة تنحني من احداها على صياد مار تشتري منه سمكاً.. طفل مشاغب يعوم أمام احداها.. سقف عوامة أخرى متآكل وقد يسقط ، رجل عجوز ينظر من بلكونة عوامة.. ويرشف شايه في شجن.. أغنية قديمة لعبد الوهاب ترتفع من احدى العوامات «بلاش تبوسني في عنيه، دي البوسه في العين تفرق ، يمكن في يوم ترجع إليّ، وحلم القلب يتحقق».