لبنان: الصوت العالي .. ضرورة

بسبب طبيعة البلد والناس .. والتلوث السمعي

TT

قد يظن الأجنبي الذي يزور لبنان للمرة الأولى أن فئة كبيرة من اللبنانيين أصيبت بـ«الطرش» (الصم). لذا ارتفعت أصواتها بشكل غير اعتيادي خصوصاً بعد تفشي أعراض كثرة استعمال الهاتف الجوال على اللبنانيين، لتنتفي بذلك الحاجة إلى استراق السمع بحيث يمكن معرفة أخبار الناس وأسرارهم سواء في المنزل أو على الطريق أو حتى داخل السيارة حيث تدور أحاديث خاصة وعامة، سياسية (والموضة اليوم هي تقرير ميليس وعملية استكمال التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس السابق رفيق الحريري) واجتماعية (والتذمر هنا لا يتوقف فمشكلات اللبناني موروثة «أباً عن جد»). وحتى أكشاك الهواتف العامة التي يفترض أنها عازلة للصوت، تصدح منها الأخبار وتتناثر، فيبدو زجاجها السميك «عاجزاً» أيضا عن أداء مهمته، ربما لأن من صممه قد فاتته أن الحناجر اللبنانية تتمتع بقوة «إرسال» عالية، البعض يرى في هذه الظاهرة نوعاً من سوء السلوك والبعض الآخر يجدها عادة بل حيوية تجذب الآخرين إلى الإصغاء، ومنهم من لا يرى فيها ما يستدعي حتى الانزعاج، إلا أن الثابت الوحيد في كل هذه الحالات هو خروج الأمور الحميمة من السر إلى العلن فيتم تداولها وتلغي خصوصيتها. البعض يرجع هذا التصرف إلى تعرض اللبنانيين فترة طويلة إلى التلوث السمعي سواء عبر ضجيج مولدات الكهرباء أو أعمال البنى التحتية المستمرة منذ خمسة عشر عاما مما ينعكس على طريقة تصرفهم ليتمكنوا من التواصل فتراهم يلوّحون ويرفعون أصواتهم ويطلقون الضحكات حين يتسامرون...

وأصبح من الممكن سماع أحاديث تدور بين فلان وصديقه، أو فلانة ووالدتها التي توصيها بعدم التلهي مع صديقاتها والتركيز على درسها. وحديث آخر بين رب عمل يأمر أحد العاملين لديه بالتقيد ببعض الشروط وإلا سيقتطع قسماً من راتبه... إضافة إلى الكثير من الأمور التي يمكن الإطلاع عليها من دون أي «سابق تصور أو تصميم». وكل ذلك عند اجتياز شارع لا يتعدى طوله 50 متراً، لأن اللبناني لا يجيد التحدث بصوت منخفض أو عادي، وتحديداً عند استعمال الجوال فتسمع كل ما يقول وأحيانا كل ما يجيبه به الآخر. ولا يستوعب أن فاعلية الهواتف العادية والجوالة غير مرتبطة بصوته العالي، وأن بعد المسافة التي تفصله عن المتصل به لا يؤثر على وضوح الكلام ونقائه.

أما عند التوقف في زحمة السير فتتعدد الخيارات، فإلى هذا النوع من الأحاديث، هناك فرصة سماع أغانٍ عربية أو أجنبية حتى من دون تشغيل جهاز الراديو. كيف؟

ذلك عندما يتولى السائق في السيارة المحاذية رفع الصوت للتمتع بإيقاع الموسيقى فيلزم الآخرين بسماع «فنانته المفضلة». أين السوء في ذلك؟ وفي دور السينما، يصبح من شبه المستحيل متابعة الفيلم في ظل وجود أشخاص غير قادرين على ضبط دعاباتهم (التافهة) وتوجيه ملاحظاتهم للتعقيب على بعض المشاهد وعلى أداء الممثلين وبصوت عالٍ طبعاً... ناهيك بتحدث البعض مطولاً عبر الهاتف الخليوي! وفي المقاهي، تصعب قراءة الصحيفة أو أي شيء آخر حتى عند الجلوس على انفراد، لأن لقاءات اللبنانيين في هذه الأمكنة غالباً ما تكون صاخبة. وتتحول أحاديثهم، التي من المفترض أن تكون حميمة، إلى جلسات علنية كالتي يعقدها مجلس النواب وتدور فيها مختلف أنواع النقاشات، إضافة إلى تشغيل جهازي التلفاز والراديو في الوقت نفسه بهدف إيجاد جو لتسلية الزبائن. أما الضجيج الخارجي فصادر عن السيارات وزماميرها وأعمال الحفريات اللامتناهية.

وبين السابعة والنصف والتاسعة مساءً، أي خلال أوقات الأخبار تمتلئ شوارع بيروت ومبانيها بأصوات المراسلين ومقدمي هذه النشرات، وذلك لأن اللبناني لا يجيد الانتباه إلا إذا رفع صوت التلفاز إلى أقصى ما يمكن، ولا يتأتى عن كل هذا الضجيج من «حوار طرشان» (الصم) لان الصُمّ أصلاً لا يرفعون أصواتهم، ويجيدون التواصل أفضل من أي لبناني يتمتع بحواسه الخمس. ورغم ذلك كله نسجل أن آخر صيحات الموضة على الصعيدين السياسي والوطني «الدعوة إلى الحوار» ولكن ما من ملبين لأن الكثيرين يريدون التحدث لا الإصغاء!