قصص الحب على كورنيش النيل.. تجهضها البطالة والرقابة المجتمعية

حين يسير العاشقون فرادى

TT

مراكب، وباعة لب وسوداني ومياه غازية، أولاد يبيعون الورود، وبنات تبيع المناديل، وعشاق يسيرون بخطى وئيدة على كورنيش النيل في القاهرة، كورنيش النيل هو أحد أهم تجمعات العشاق في القاهرة، لا سيما الفقراء أو محدودي الدخل منهم، والذين يبحثون عن مكان ليكتشفوا فيه الدقات الأولى لقلوبهم، تجدهم جماعات، وفرادى، يتجمع حولهم باعة الورد «ورد يا بيه للهانم، فل يا باشا للمدام»، الذين يخطون خطواتهم الأولى تجاه المراهقة، أو سن الرشد يعرفون الطريق جيدا إلى كورنيش النيل، يعرفون مقاعده الخشبية يعرفون إلحاح باعته، لدرجة أنه يمكننا القول إنه لا يوجد عاشق في القاهرة لم يمر على كورنيش النيل.

سعيد ، الذي كان يعطي للشارع ظهره، أمام مبنى ماسبيرو، ينقل نظره بين الفتاة التي تجلس بجواره، والنيل أمامه، قال لي إنها خطيبته، وإنه يلجأ إلى كورنيش النيل هربا من أسعار الكافيتريات الملتهبة في وسط القاهرة، وقال: هنا نستطيع أيضا أن نتناول الشاي والكولا لكن بأسعار «مهاودة»، وإن كان الباعة يلحون بشكل فظيع لكن على اية حال تعودنا على تجاهلهم.

أكثر ما يضايق سعيد هو العيون المتطفلة والتي تنظر إليه وإلى خطيبته بإلحاح وكأنهما يرتكبان إثما، «لكننا تعودنا عليها أيضا». يقول سعيد: «في أول مرة جئت هنا كنت أنا وأصدقائي في بداية المرحلة الثانوية، وكنا نفعل المثل، لكن الزمن دار وأصبح يفعل فينا كذلك».

عبير، خطيبته التي كانت تجلس بجواره ناظرة للأرض، والتي كانت قد آثرت الصمت، قالت «في البداية كنت أخشى أن يرانا أحد، لكن لما تمت خطبتنا لم يعد الأمر ذا أهمية، خاصة أن مصر كلها تأتي إلى الكورنيش «عشان تحب».

العين المتفحصة لكورنيش نيل القاهرة تجد العشاق يسيرون معا، قلة من الشباب من كانوا يقفون وحدهم، يتطلعون إلى النيل، إلى برج القاهرة من الناحية الأخرى، وفندق الماريوت ومبنى الاوبرا ثم ينقلون عيونهم إلى مياه النيل، قلة من يأتون لكي يروا النيل ويستمتعون بجماله.

الذين يأتون فرادى لكي يبكوا على الأطلال كشف لي عنهم، مطاوع، صاحب أحد المراكب الموجودة على النيل لتقل من يريد أن يتنزه في النيل من العشاق، او الزائرين القادمين من أماكن بعيدة، وأحيانا بعض السياح الاجانب مقابل جنيهين للدورة الواحدة، مطاوع قال لي: نحن لا نتعامل إلا مع مثل هؤلاء، وهناك وجوه مألوفة بالنسبة لنا، منهم من يأتي لوحده، وفي المرة الثانية يأتي مع أحد آخر، مطاوع لا يؤمن بالحب الذي يولد على كورنيش النيل، ويرى أنه ينتهي بمجرد أن تمر أي عاصفة أمامه.

يعرف مطاوع أيضا العاشق الحقيقي من هيئته، ولكن قصصهم معظمها تنتهي بالفشل، بعد أن يكتشفوا أن الحياة أعقد من «مجرد كلمة حلوة على الكورنيش، معظم هؤلاء طلبة جامعة، وبمجرد أن يتخرج الواحد منهم، ويكف عن أخذ المصروف من أبويه تجده توقف عن المجيء إلى هنا ويبدأ في البحث عن وظيفة لن يجدها، لتنتهي قصة الحب التي لم تكتمل». ما قاله مطاوع رغم أنه قاس قليلا، إلا أنه واقعي تماما.

هناء التي كانت تنتظر بجوار أسد كوبري قصر النيل، وتنظر في الساعة بين حين وآخر، ورفضت الحديث معي، إلا بعد أن أتى شخص آخر، قالت لي إنه زميلها في الجامعة، وأنهما اتفقا على الزواج بعد انتهائهما من الدراسة، من معها قال إنه يعمل فترة بعد الدراسة، ولا يأخذ راحة إلا يوم الجمعة، وهو اليوم الذي يخرج فيه معها، وأضاف أيضا أن أسرته وأسرتها لا يعلمون أنهما يلتقيان هنا «البلد كبيرة ما حدش عارف حد، كمان إحنا من منطقة بعيدة ما حدش فيها بييجي هنا».

هناء وصديقها اللذان هربا من الرقابة المجتمعية، ومن البطالة، قد تنتهي قصتهما على خير إذا حدثت معجزة، كأن يجدا عفريت مصباح علاء الدين الذي سوف يحضر لهما المهر والشبكة والشقة والعمل الذي سوف يكفي لإعالتهما.

أكثر الكباري في القاهرة امتلاء بطلبة الجامعة هو ولا شك كوبري الجامعة والذي يمتد من أمام حديقة الحيوان التي تلي جامعة القاهرة، ونستطيع أن نقول انه على هذا الكوبري انتحرت أحلام كثيرة.

باعة الفل والبطاطا واللب والكولا على كورنيش النيل يحفظون قصصا كثيرة ماتت مبكرا، لكن العشاق يكرهونهم لإلحاحهم، أحد باعة عقود الفل قال لي نحن نعلم أن الولد سيصاب بالإحراج من إلحاحنا وسيشتري فلا للبنت التي معه وإلا اتهمته بالبخل، وأضاف: نحن أيضا ليس لنا مورد رزق إلا هذا ولا توجد طريقة لكسب العيش إلا بهذه الطريقة. كورنيش النيل الذي يبدو جميلا مرحا، يخفي الكثير من الأحزان خلفه، ويضم أيضا إلى جوار العشاق من كانوا عشاقا وتزوجوا فيما بعد.

الأستاذ محمود الذي يعمل مدرسا للغة العربية وكان يجلس مع زوجته يتابع بعينيه ابنهما الصغير ذا الثلاث سنوات الذي يتنقل من مكان لآخر، قال لي إنه يأتي إلى هذا المكان منذ أن كان في فترة الخطوبة هو وزوجته، وأضاف أنه يحب هذا المكان لأنه شهد قصة الحب التي بينه وبين زوجته، وخفض صوته مضيفا: رغم أن هذا الحب قد فتر إلا أن زوجتي حينما تطالبني بالخروج لا أجد أفضل من هذا المكان لأنه رخيص، كما أن الباعة لا يقتربون مني كثيرا لأنهم يعلمون أننا متزوجان.

الأولاد الذين يلبسون بنطلونات جينز، ويمسكون في أيديهم علب سجائر من النوع الرخيص، والبنات اللائي يرتدين حجابا صغيرا، ويخفين وجوههن بالنظر إلى كورنيش النيل، يحملون حتما قلوبا تدق، أو ربما تجرب الخفقان لأول مرة، لكن أمامهم يقف عائق الرقابة المجتمعية، والبطالة التي جعلتهم يأتون إلى هذا المكان لأنه الأرخص.

باعة الورد يبيعون لهم حتما مع ورودهم شوك الفراق الذي سوف يأتي يوما ما، حينما تصدمهم حقيقة الواقع، وعندها، سيسير العاشقون فرادى.