مقاهي جدة محطة ليلية لفضفضة المثقفين والصحافيين

الجغرافيا السياسية والمرأة والنكتة مع رائحة النرجيلة جزء من حكايتهم اليومية

TT

«جغرافيا العالم من حولنا تمتد أمامنا على طاولة المقهى نتناقش حولها بجدية، نضحك أحيانا حول نكتة يقولها أحدنا بصوت عال، نصمت أحيانا أخرى حينما نبدأ في ارتشاف القهوة وكأننا نأخذ استراحة قبل بدء الجولة الثانية من النقاش»، هكذا يحاول أحمد قران الزهراني، شاعر وصحافي بمجلة الإعلام والاتصال، أن يوجز حكايته هو وبعض أصدقائه من الصحافيين والمثقفين عندما يجتمعون في (قصر القهوة)، أحد مقاهي جدة الحديثة القريب من ميدان الطائرة القابع شمال مدينة جدة، أو (الفرسان) مقهى شعبي يقع على طريق المدينة الطالع. وأحمد الذي عادة يجتمع مع بعض الأسماء المعروفة في الوسط الثقافي والصحافي أمثال حسين بافقيه (رئيس تحرير مجلة الحج سابقا)، وعبد العزيز الشريف (رئيس تحرير مجلة جدة)، وعبد الله الفارسي مسؤول تحرير الصفحة الشعبية في جريدة المدينة، والناقد معجب العدواني والروائي عبده خال، والناقد علي الشذوي، وخير الله زربان محرر صحافي ثقافي مهتم بالفن التشكيلي، وعبد الله العبيان وغيرهم.. كما يقول: «لا نروح الى المقهى متمتمين أو عابسين أو حتى معتمرين الرسمية على رؤوسنا مع الشماغ أو الغترة كعنوان لهويتنا التي ينبغي أن نلتزم بها بقناعة أو دونها، وإنما نروح مساء ونجتمع كما نحن ببساطة الحياة التي اعتادها أغلبنا في حياته الواقعية».

ويبدو أن المثقفين والصحافيين في جدة اعتادوا على الفوضى التي تكون صفة وعادة ملازمة لمن ينضمون إلى فريقهم، إذ ليس لديهم وقت محدد للاجتماع كما يقول أحمد: «عادة ما تكون أسبوعية، ولكن لا نلتزم بوقت بعينه كي نجتمع به ودائما ما يحكم لقاءاتنا المزاج متى ما أردنا اللقاء والثرثرة». ولكن ما ان يبدأوا في الجلوس حول إحدى الطاولات في مقهى الفرسان الشعبي المفتوح ويبدأ النادل في كتابة طلباتهم (قهوة، شاي، معسل تفاح، شيشة.. وغيره)، حتى تبدأ أحاديثهم جولة بعد جولة حول «كل شيء وأي شيء»، كما يقول الزهراني، فقد يتبادلون الحديث حول الشؤون السياسية العالمية التي تغلب في نقاشهم وحول آخر الأحداث الثقافية والظواهر الاجتماعية، خاصة فيما يخص المرأة والمجتمع النسائي، ويقول: «نحن كما نتحدث حول أنشطة زملائنا الإعلاميين والمثقفين، نتحدث أيضا حول نشاط زميلاتنا الإعلاميات والمثقفات وما قدمنه من أعمال، فما المانع أن تكون المرأة جزءا من أحاديثنا».

وجيل القنطرة من الصحافيين والمثقفين الشباب، على حد قول محمد باوزير، محرر ثقافي في جريدة الرياض بمكتب جدة، يفضلون الاجتماع في المقاهي الشعبية أكثر من الحديثة خاصة تلك التي تقع على خط (الصنايع) بجوار الورش الصناعية، إذ تكثر فيها المقاهي والسبب كما يقول: «تلك المنطقة لا توجد بها سوى ورش صناعية وبعيدة عن المناطق السكنية والمنازل، لذلك تكثر بها المقاهي كي لا تضايق المنازل بجوارها». وتستمر الفضفضة كما عبر عنها باوزير في هذه المقاهي التي عادة يقلل من انضمامه إليها حتى بعد منتصف الليل وأحيانا تمتد حتى الساعات الأولى من الفجر.

والمفارقة بين جيل القنطرة وبين جيل الرواد (العتيق) ليست فقط في المرحلة العمرية والناحية المادية، بل وحتى الفكرية أيضا، وهذه هي التي جعلت المقهى سببا لتجمع الشباب من المثقفين والصحافيين ضاربين عرض الحائط تلك الصالونات الأدبية الفخمة ومن يحضرها من أصحاب المعالي والسعادة وما يقدم فيها مما لذ وطاب، ويقول: «أصحاب هذه الصالونات الأدبية والثقافية التي يتجمع فيها المثقفون من الجيل القديم أغلبهم أصحاب فكر كلاسيكي تقليدي، وإن كان بعضهم يحاول استيعاب فكر الحداثة الذي يرفع رايته جيل الشباب من المثقفين ولهذا لا يوجد توافق فكري وحتى ثقافي».

ويتابع باوزير: «إضافة الى ذلك، فأصحاب هذه الصالونات الأدبية والثقافية يبدو أنهم أيضا لا يهضمون فكر الجيل الجديد من الشباب، ولذلك لا يقدمون لهم الدعوات لحضور مجالسهم وتجمعاتهم الثقافية داخل صالونات منازلهم الضخمة». وكما أشار باوزير إلى أن المقهى كان هو الحل الأمثل لتجمعات جيل القنطرة لأن أغلبهم من الموظفين، وظروفهم المادية لا تسمح لهم بفتح صالون أدبي في منزل أحد منهم ليتجمعوا في جلسة ثقافية (مهضومة) ولذلك «اختاروا طاولة على مقهى مع فنجان شاي وأحيانا نرجيلة معسل ليتناقشوا ويفضفضوا ويثرثروا وسط رائحة النرجيلة والشيشة من حولهم مع نسيم الليل العليل»، وأضاف: «المقهى يعطي متنفسا واسعا من الحرية للنقاش من دون أن يحسب عليك أحد كلامك، وهذا الأمر غير متوفر في جو الصالونات الثقافية التي تلزمك في التكلف بكلامك ومظهرك الأنيق الذي عادة ما يكون آخر الاهتمامات إذا ما ذهبت إلى المقهى». ويذكر باوزير مفارقة مدهشة بقوله: «أنت تتعجبين إذا ما رأيت المثقفين والإعلاميين عندما يخرجون من النادي الأدبي الثقافي بعد نقاش ثقافي ويتجهون بعده إلى مقهى لإكمال أمسيتهم»، ويتابع: «الفرق واضح هناك شخصية متكلفة وصارمة الملامح، وفي المقهى شخصية أخرى من الحرية والانفتاح والمرح».

وعلى عكس السابقين، يؤكد المسرحي علي دعبوش تجمع المهتمين بالدراما في المقاهي أيضا والسبب كما أرجعه «عدم وجود الجو المناسب لهذه النقاشات المنفتحة داخل جمعية الثقافة والفنون»، ويضيف: «إلى جانب أن مسؤول الجمعية بجدة يأمر بإقفال أبوابها عند العاشرة مساء وهو الوقت الذي عادة ما يتجمع فيه الشباب من المهتمين في المقهى بعد انتهاء أعمالهم ومسؤولياتهم».

ودعبوش آخر من يهتم بالمقهى، على حد قوله، وهو أبدا لا يفضل الذهاب إلى المقاهي الشعبية وكما يقول: «لا أجد النقاش داخل هذه الجلسات مجديا، فأنت قد تسمع نكات غير متوقعة من شخص منهم ولأنها بصراحة تريني الشخصية الأخرى للمثقف التي عادة ما ينادي بنقيضها في النهار من خلال المثالية المتكلفة».