جواسيس الحرب في لبنان بين الأسطورة والواقع ومعادلات التحالفات السياسية

TT

أقدمت مجموعة تابعة لأحد الفصائل الفلسطينية في مخيم البداوي، شمال لبنان، على «إعدام» فسلطيني وزوجته وابنته، وأصيب ولداه بجروح. وسبب الإعدام أو التصفية من دون محاكمة هو اتهام الضحية بأنه كان يعمل «مخبرا» لدى أحد الأجهزة الأمنية اللبنانية.

والجاسوسية هي الترجمة اللوجستية لعبارة «عمالة» في القاموس اللبناني، وقد سادت أثناء الحرب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي. وحكايات الجواسيس راجت خلال تلك الحقبة بشكل عشوائي ومضخم، حتى أن البعض كان يُقتل على الشبهة بسبب شائعة عن تجسسه على فئة من الفئات المتقاتلة لصالح أخرى. ولعل اشهر حكاية في هذا الإطار هي تلك التي تروى عن مرافق الرئيس الراحل ياسر عرفات، إذ قيل انه كان يعطي إشارات للجيش الإسرائيلي، بحيث تتمكن طائراته من مطاردة عرفات وقصفه بين الأزقة في غرب بيروت خلال اجتياح عام 1982. وعندما اكتشف عرفات الامر قدم مسدسه لمرافقه وأمره بالانتحار. وهكذا كان. ومن الجواسيس الإسرائيليين الذين تأرجحت الروايات عنهم بين الحقيقة والأسطورة، لا ينسى أهل بيروت «أبو الريش» الذي كان معروفا بتسكعه على طول الكورنيش البحري في غرب العاصمة، وفي منطقة الحمرا الآمنة نسبيا والتي كانت تستقطب معظم القيادات الوطنية والفلسطينية قبل الاجتياح بفترة، مرتديا أسمالا بالية وقبعة غريبة الشكل، وحاملا بيته على كتفيه في كيس كبير. وكان يتسول ويبادل الناس الأحاديث السياسية بمهارة جعلت الكثير من المسؤولين في هذه القيادات يحاوره من دون تكليف. وبعد الاجتياح فاجأ أبو الريش الجميع عندما استبدل أسماله البالية ببذلة ضابط إسرائيلي وتقدم الجنود الذين اقتحموا العاصمة اللبنانية.

«بالتمر باللوز بالمحلب»، عبارة كان يرددها شاب غزا فجأة عددا من الأحياء الشعبية في غرب بيروت، أيضا قبل الاجتياح، وكان يحمل طبقا كبيرا على رأسه، يبيع فيه الكعك للكبار والصغار ويتفنن في أسلوب الترويج لبضاعته ويتعرف الى السكان بمهارة جعلته يلمّ بتحركاتهم وببعض خفاياهم. لم يعرف له أحد اسماً، كذلك لم يستطع احد ان يفسر كيف اختفى بعد دخول الإسرائيليين بيروت. وقيل انه كان جاسوسا إسرائيليا، يزود العدو بمعلومات عن كل شبر من ساحة تنقلاته.

جنوب لبنان عاش بامتياز رعب الجواسيس غداة الاحتلال الإسرائيلي. فقد انتشرت في قراه وبلداته ظاهرة «الملثم» الذي يرافق القوات الإسرائيلية لدى مداهمتها بيوت «المخربين» كما كانت تلقب المقاومين لاحتلالها. «الملثم» هو عادة من أهل القرية او من قرية مجاورة، يعرف الجميع ويتعامل مع الإسرائيليين مقابل مبالغ مالية. وهو أحقر أنواع الجواسيس. غالبا ما كان ينكشف أمره ويصار الى تصفيته عندما تسنح الفرصة ويتم الاستفراد به. وقد تردد أن «ملثما» افتضح أمره وتمت تصفيته بمساعدة ابنته التي عانت مع والدتها وإخوتها من نظرة أهل القرية اليهم كخونة، فما كان منها الا ان سهلت للمقاومين وسيلة الإيقاع به والقضاء عليه.

لكن تهمة التعامل لم تقتصر على العدو الإسرائيلي فقط. فقد الصقتها الاحزاب المصنفة وطنية خلال الحرب، إي تلك المساندة للفلسطينيين ومن بعدهم السوريين، بكل من يتعامل مع أحزاب القوى المسيحية. ليصبح فلان عميلا لحزب الكتائب، وآخر للقوات اللبنانية. وبالطبع كل من انتسب الى القوات هو عميل لإسرائيل. وبقيت التهمة سائدة حتى بعد اتفاق الوفاق الوطني في الطائف عام 1989. ولأن معادلات الحرب تبدلت وتعرضت لانقلابات جذرية في التحالفات شهدت ساحة «العمالة» مفارقات غريبة وعجيبة. فأصبح من يتعاطف مع القضية الفلسطينية عميلا لعرفات، ومن لا ترضى عنه القيادة السورية عميلا لصدام في مرحلة ما أو عميلا إسرائيليا في المرحلة اللاحقة.

وبعد تحرير الجنوب اللبناني اعتبر البعض ان العملاء فازوا بفرصة ذهبية، اذ سلموا الى السلطات القضائية اللبنانية وحوكموا وسجنوا لفترات تراوحت بين بضعة اشهر وبضع سنوات. حتى ان احد البرامج الانتقادية تناول المسألة في مشهد فكاهي، حيث نصح ممثل متهماً بالسرقة بأن يعترف بعمالته لإسرائيل فينال حكما مخففا ويطلق سراحه.