طابور الصباح في المدارس المصرية .. تأديب وتهذيب وإصلاح

طقوسه تبدأ بالتمارين والإذاعة وتنتهي بتحية العلم

TT

«مدرسة صفا، مدرسة انتباه» ينطلق صوت مدرس اللغة العربية والتربية الدينية القوي من خلف ميكروفون إذاعة المدرسة، يهز طوابير التلاميذ في الصباح، ورغم أن معظمهم إن لم يكن جميعهم لا يعرفون الفرق بين «الصفا» و«الانتباه»، إلا أنهم كانوا يحركون أقدامهم يرفعونها عاليا ثم يخبطونها بالأرض، وبمجرد أن يجد المدرس طلبته قد انتظموا حتى يبدأ في تمارين الصباح: ثني ومد، يمين شمال، فوق تحت.

طابور الصباح في المدارس المصرية والذي عادة يبدأ في السابعة والنصف صباحا وينتهي في تمام الثامنة مع دقات الحصة الأولى، يرى الكثير من الطلاب أنه مثل السجن تهذيب وتأديب وإصلاح، وبالنسبة إلى مسعد الذي يدرس في السنة الثانية من التعليم الثانوي فهو لا يحضر الطابور، وعلى حد قوله «كفاية علي طابور العيش»، لكن زميله الذي كان يقف معه أمام سور مدرستهما بالجيزة كان له رأي مختلف، فعلى حد تعبيره «الطابور نصف ساعة يتفنن الناظر في تعذيبنا خلالها».

لطابور الصباح في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية المصرية طقوس معروفة تبدأ بالجرس الذي يضربه «فراش المدرسة»، قبل أن يهرول طلاب كل صف دراسي إلى المكان الذي اتفق سلفا على أن يقفوا فيه في صفين متجاورين، ليبدأ بعد ذلك المدرس، والذي عادة ما يكون معلم العربي والدين في إصدار التوجيهات إلى الطلبة، وهو إذ ينظر من شرفة غرفة الإذاعة يرى الصفوف غير المنتظمة فيصدر أوامره إليها بالانتظام، أما تعيس الحظ فهو ذلك الذي يعرف المدرس اسمه لأنه سيوبخه به على الملأ، بعد تمارين الصباح تبدأ الإذاعة المدرسية بقراءة القرآن، ثم حديث الصباح وحكمة الصباح ودعاء الصباح وكلمة الصباح، قبل أن يمر المدرس أو ناظر المدرسة للتفتيش على النظافة الشخصية لكل طالب، الطاهر شرقاوي ،31 عاما ، قال لي إن طابور الصباح لا يمثل لي سوى أنه كان فرصة مدرسة لشيخ المعهد ليعاقبنا فيه. الطاهر الذي تعلم في أحد معاهد مدينة أرمنت الأزهرية قال لي «كنت أحرص كل يوم على أن أذهب إلى الطابور متأخرا حتى لا أسمع الخطبة التي يصر شيخ المعهد على أسماعنا إياها يوميا، ويزيد فيها ويعيد ما قاله في اليوم السابق، ويظل يتكلم لمدة نصف ساعة بينما نحن نكاد نصرخ من الألم في أقدامنا».

ويتذكر الطاهر ما كان يحدث في الطابور «وكان هناك عامل اسمه بصري لم تكن له وظيفة في المعهد سوى انه عندما يسمع شيخ المعهد يزعق باسمه مشيرا إلى أحد الطلبة يهرول إلى الطالب المسكين ويرفع قدميه لتنهال عليهما العصي فكان يقوم بدور مسرور، جلاد شهريار».

كثير من الذين نجحوا في حياتهم يتذكرون طابور الصباح في المدرسة بالخير، فكثير من الصحافيين يروون أن «إذاعة المدرسة» كانت هي الطريق الأول لهم لناحية الشهرة، حيث كان يعرفهم من في المدرسة، كما يروي كثير من المذيعين أن أول اختبار لهم كان في طابور المدرسة، رامي الذي يدرس الموسيقى في الأوبرا قال لي إنه كان يحب الطابور لأنه كان يتيح له العزف على الآلات الموسيقية التي لم يكن متاحا العزف عليها سوى في حصص التربية الموسيقية.

في صباح أي يوم وأنت تمر بسيارتك في أحياء القاهرة ستلاحظ حتما ذلك التداخل بين ميكروفونات المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، الصبيان والبنات، كل مدرسة تقدم ما عندها، وكثير من أسرار هذه المدارس، وأسرار طلابها تستطيع أن تسمعها من خلال ميكروفون الإذاعة، ورغم الضجيج الذي قد تحدثه تلك الميكروفونات، إلا أنك ستشعر أنها تشبه سيمفونية متناغمة.

طابور الصباح في أي مدرسة بمثابة اجتماع الرئيس مع أتباعه، ففيه يعلن ناظر المدرسة أهم القرارات، وفيه يعلن أيام الامتحانات، وأيام الإجازات، وتتم فيه معاقبة من ارتكب جرما كبيرا، أو إثابة من أحسن، طبعا بعد خطبة عصماء، أما إذا كان أحد الموجهين في زيارة المدرسة فسيصبح من الضروري على الطلاب أن يقفوا وقتا أطوال حتى يستمعوا إلى خطبة عصماء إضافية، أو كما قال لي أحد الطلبة «وعشان نتعود على وقفة الطوابير بعد كده»، ولذلك فهو ينتظر بفارغ الصبر ذهابه إلى الجامعة حتى يتخلص من وقفة الطابور، ويستيقظ في الوقت الذي يريده.

تحية العلم هي آخر طقوس طابور الصباح، حيث يخرج ثلاثة طلاب من الشرطة العسكرية، يرددون التحية الجمهورية، فيرددها خلفهم جميع الطلاب في المدرسة بصوت جهوري بينما جميع المدرسين يقفون احتراما.

الطريق بعد ذلك إلى الفصول يكون ممهدا، لكنه مليء بالمدرسين الذين يفتشون نظافة الملابس، وقص الأظافر وحلاقة الشعر ولاستبعاد الطلبة غير الملتزمين، كل هذا على أنغام الموسيقى العسكرية التي يعزفها الطلاب، هؤلاء الذين سيتذكرون، بعد سنين طويلة، وقفتهم هذه ويقولون : «كانت أياما جميلة».