«الموت» سبيل للاسترزاق في لبنان

مصائب قوم عند قوم فوائد

TT

«مصائب قوم عند قوم فوائد». لعل هذا أصدق ما يقال في مهنة تقتات بالموت وطقوسه، التي يعتبرها أهل الفقيد وسيلة لتكريمه وراحة نفسه. ولولا هذه الطقوس لتهدد أصحاب هذه المهنة ومرادفاتها، وارتفعت البطالة وخسرت نسبة من العائلات «خبزها الذي هو كفاف يومها».

«الشرق الأوسط» طرقت «باب الموت» على طريقتها، وجالت على بعض متعهدي المآتم في بيروت. الملاحظة الاولى كانت غياب تسعيرة واضحة للخدمات، لاعتماد هؤلاء المتعهدين في تحديد أتعابهم، على الوضع الاجتماعي للعائلة المفجوعة، معيارا اساسيا في «تركيب الفاتورة»، فإن كانت ميسورة ترتفع الأسعار وإن كانت متوسطة الحال أو فقيرة معدمة تكثر التقديمات والحسومات من جانب أصحاب هذه المهن. وتندرج بعض محال الزهور اللبنانية في مقدمة لائحة «مستثمري الموت». وقد تخصص العديد منها في توفير «خدمة الموت» من ألفها إلى يائها، وكأنه اختار طوعا «الموت» سبيلا للرزق، واحتكر المهنة فبات يقصده كثيرون من مختلف المناطق اللبنانية، إما لإرسال إكليل من زهر إلى عزيز فقدوه، وإما لإيداعه مهمة تسيير أمور الدفن والجنازة وتوفير ما تتطلبه من لوازم. ولا عجب ان تسمع بفتاة في الثانية والعشرين من عمرها، هي منال كرم، التي اختارت العمل في «تقديم القهوةش بمعدل يومين أو ثلاثة أسبوعيا، في مناسبات تقبّل التعازي، بعد استكمال مراسم الدفن والجنازة، إلى حين إيجادها عملا في مجال اختصاصها الجامعي، وهو علم النفس أو اية وظيفة أخرى «توفر لي المدخول بطريقة محترمة». وتتلقى كرم كغالبية العاملين في هذا المجال نحو 33 دولارا لقاء كل يوم عمل، يبدأ في التاسعة صباحا وينتهي عند السادسة مساء. وغالبا ما تشوب هذه الساعات لحظات من الأسى، تتذكر خلالها من فقدتهم من أقربائها أو ذويها «خصوصا عندما أعايش لوعة اهل الفقيد، يجعلني أستعيد ألما أحسب أنني تخطيته». مضيفة: «غير أن أجواء الحزن والأسى ليست حتمية خلال عملي في المآتم، خصوصا في تلك المرفّهة، حيث تتباهى السيدات بارتداء الفرو مع تسريحة عصرية أو أحمر شفاه بارز واظافر مقلمة خصيصا للمناسبة».

وهذا النوع من المحال لا يوفر الأزهار فقط، إنما الصندوق أو التابوت لنقل الميت ويتراوح سعره بين مئة دولار وثلاثة آلاف أو حتى أكثر، إذا كان ملبسا بالذهب أو مصنوعا من خشب السنديان أو محفورا يدويا. اما إيجاره فنادرا ما يتخطى المئة دولار، بما فيها أجرة حامليه. سعر الكفن لا يتخطى الخمسة عشر دولارا، لكن غسل الميت يكلف كحد أدنى 30 دولارا. ويتراوح ثمن لباس الميتة لدى المسيحيين بين 30 دولارا و150 واحيانا أكثر. وقد يلجأ بعض الناس إلى تأجيل الدفن ساعات لغايات متعددة، فيضطرون إلى الاستعانة بحقنة الفورمول أو «حقنة التحنيط» التي يتراوح ثمنها بين 50 دولارا و75 تبعا للمستوى المادي لأهل الفقيد. وبدوره فان العيش في المدينة يفرض الانتقال مسافات طويلة لدفن الفقيد في مسقط رأسه، وهذا ما يستتبع استئجار سيارة خاصة (غالبا ما تكون كاديلاك سوداء) يختلف سعرها، بحسب بعد المسافة، غير ان المعدل يتراوح بين 75 دولارا و150 تشمل بدل اتعاب السائق.

وهناك طريقتان معتمدتان لنشر «الخبر الصاعقة» الاولى، عبر طبع اوراق نعي تكلف 20 دولارا او 25 دولارا وتعلق في أحياء منطقة الفقيد، والثانية عبر نعي في الصحف المحلية. ويختلف سعر هذه الطريقة بحسب عدد الأسطر، لكن «التسعيرة» المعتمدة من سطر إلى عشرة تبلغ نحو 33 دولارا و3 دولارات لكل سطر إضافي. وهذه العادة تشكل مدخولا لا بأس به للصحف التي تعاني أزمة مادية، حتى ان إحداها تقدم نسخة مجانية منذ 5 سنوات إلى أحد متعهدي المآتم، علّه يجلب لها زبائن من هذا النوع. وأخيرا يعتمد اللبنانيون طريقة جديدة لاستقبال المعزين، وهي أماكن عادة ما تكون تابعة لدور العبادة فيدفعون ثمن إيجارها، واحيانا تكون خالية من الكراسي فيستأجرون نحو مئة كرسي لقاء 50 دولارا. ومنهم من يفضلون إرسال بطاقات شكر لمعزيهم وسعرها عشرة دولارات.

وتزيّن هذه الأماكن بالأزهار، التي تنقل أحيانا إلى الضريح، بعد الانتهاء من استقبال المعزين ويتراوح سعرها بين عشرة دولارات و150، بحسب عددها ونوعها وطريقة تقديمها (إكليل، باقة، سلة أو غيرها) وموسمها، فمن الملاحظ ان اسعار الأزهار تصبح باهظة خلال الشتاء والصيف.

ويستقدم البعض لوداع فقيدهم لا سيما إذا كان في ريعان الشباب، فرقة ندب يتراوح أجرها بين 600 وألفي دولار. ولراحة نفسه، يدفع نحو 400 أو 500 دولار للصلاة عليها. وإذا دفن الميت بعد صلاة الظهر يقيم أهله وليمة غداء على روحه، لا سيما في الأرياف، أما إذا دفن بعد صلاة العصر فتقدم الحلوى وهذه لا يقل ثمنها عن 300 دولار.

أما طريقة الدفع، فلا خلاف عليها، لأن العائلة المفجوعة لا تجادل غالبا في هذه الامور، إكراما لفقيدها، لا سيما عندما يطرأ الموت فجأة من دون مرض او عجز، وبالتالي لا يحضرون له مسبقا ولا يكونون على علم بتكاليفه. وفي لبنان يرتبط شهر فبراير (شباط) بتخوف العديد من اللبنانيين، وتحديدا العجزة، من الموت. كما يتحضر أصحاب هذه المحال لموسم «مبارك» يقدمون فيه أسعارا «تشجيعية» يتنافسون بواسطتها على جذب العائلات المفجوعة. ويتردد البعض الآخر من اللبنانيين المحبطين قبل تمني الموت حتى في أحلك الظروف لانه بات مكلفا جدا!