«المصور المتجول».. مهنة يقوم بها بعض المصريين لكسب عيشهم

اضحك.. تطلع الصورة حلوة

TT

كورنيش النيل في القاهرة بالنسبة إلى الكثيرين هو شاب وفتاة يسيران جنباً إلى جنب، يداً في يد، باعة الترمس واللب، باعة عقود الفل والياسمين، مراكب للإيجار، ومصور متجول يعلق في عنقه كاميرا كبيرة، يميل على الواقفين والجالسين على سور الكورنيش ويهتف: صورة يا بيه، صورة يا أستاذ.

لكن المصور يختلف عمن سبقوه في أنه ابن لهذا الشارع، يقضي فيه جل عمره، ينتقل من مكان إلى مكان، الشارع بالنسبة له «مكان أكل عيشه» كما يقول العم يونس، الذي التقيته في حديقة الحيوانات بالجيزة، يبحث عن طفل يريد أن يلتقط صورة بجوار الأسد، أو وهو يقف بين أبويه، في صورة تذكارية يضعها في ألبوم الصور.

العم يونس في منتصف الخمسينات، يرتدي بدلة قديمة، اختفى لونها الأصلي من كثرة ارتدائه لها «اشتراها من حوالي عشرين عاماً»، يعلق في كتفه حقيبة بها معدات التصوير، وكاميرا يحملها يدور بها على الجالسين والواقفين والمتجولين منادياً «صورة يا هانم، صورة يا بيه».

منذ أكثر من عشرين عاماً قرر العم يونس أن يمتهن هذه المهنة، خاصة بعد أن سافر الى عدة بلدان عربية بحثاً عن لقمة عيشه، ولكن لم يكتب له النجاح فيها جميعاً، ولكنه ظل مع كل هذا يحمل داخله حلماً يراوده بين الحين والآخر بأن يصبح مصوراً فوتوغرافياً. يقول العم يونس إنه لم يفتح استوديو خاصا به تكلفته سوف تكون مرتفعة جداً، ومع مرور الزمن يحب مهنته، ويحب الشوارع، ويحب التقاط الصور التي قد لا يستطيع التقاطها في استوديو بين أربعة جدران، وأردف «أهم ما في الأمر أن تحب مهنتك وأن تخلص لها حتى تعطيك».

تختلف حكاية عم يونس عن حكاية «سيد» الشخصية السينمائية التي تكاد تكون الوحيدة في السينما المصرية التي قدمها وحيد حامد للمصور المتجول في فيلم بعنوان «اضحك الصورة تطلع حلوة» وقام ببطولته الفنان الراحل أحمد زكي وليلى علوي ويحكي قصة «سيد» المصور الفوتوغرافي في مدينة إقليمية صغيرة ويعيش مع أمه روحية وابنته تهاني بعد وفاة زوجته منذ عشر سنوات ويمتلك استوديو للتصوير وفلسفة خاصة ملخصها عنوان الفيلم، ولكن حين تحصل ابنته تهاني على مجموع يؤهلها للالتحاق بكلية الطب في جامعة القاهرة، يقرر الانتقال للإقامة في القاهرة. ولأنه يحب مهنة التصوير، ولا يملك أن يفتح استوديو جديدا فإنه يقرر أن يعمل مصوراً جوالا ليكتشف عالماً جديداً عليه، عالم الشوارع، عالم الليل، عالم القاهرة السري الذي يتصارع فيه الفقر مع البشر. للمصورين الجوالين أماكن عدة في القاهرة، ولكنهم يوجدون بشكل مكثف في أماكن التجمعات البشرية، خاصة تلك التي يمكن أن يطلق عليها اسم «أماكن الحب» والتي يكثر فيها وجود أولاد وبنات يتعرفون على الحب ويريدون أن يسجلوه في لقطة تذكارية، ومن أشهر تلك الأماكن: الكورنيش وحديقة المريديان بروكسي والحديقة الدولية بمدينة نصر وحديقة الحيوانات وغيرها.

أغنية المصور المتجول المفضلة لا بد أن تكون «إيديّا في جيوبي وقلبي طرب، سارح في غربة بس مش مغترب، وحدي لكن ونسان وماشي كده، ما عرفشي ببعد ولا أنا بقترب»، فهذا حاله لا شك، يسير هائماً على وجهه في الشوارع، واضعاً يديه في جيبيه، يريد أن يدفئهما حين عودته بالمال، لا يكف عن ترديد جملته الأثيرة، يغني للعشاق والفقراء، يجب عليه أن يبتسم للجميع حتى لو كان يبكي في داخله، يردد لعملائه «اضحك الصورة تطلع حلوة» أو كما قال لي مصور حديقة الأندلس بالأوبرا «الزبون لازم يصدق أن الصورة حلوة، وأنه فيها أجمل من رشدي أباظة حتى يوافق على التصوير».

«المهنة راحت عليها» هكذا أضاف مصور الأندلس وقال «الشباب الآن يحمل كاميراته معه، ومن ليس معه كاميرات فإنه يملك هاتفا جوالا بكاميرا، كما أن البعض يرفض التصوير خوفا من أن تقع الصورة في يد من لا يؤتمن، أيضاً المهنة لم تعد مربحة مثل الماضي».

مسعد، مصور آخر يوجد بصفة مستمرة في أماكن التجمعات الأدبية، نادي القصة، الأتيليه، ندوة المساء الأدبية، مؤتمرات المجلس الأعلى للثقافة، ندوات معرض القاهرة الدولي للكتاب، يلتقط الصور من دون أن يستأذن أحد، يطبع منها نسخا كثيرة، ثم يدور بعد ذلك يبحث عن أصحابها لبيعها لهم، ويقول: لو أنني انتظرت أن يطلب مني أحد صورة فلن أعمل، لذلك أبادر بالتقاط الصور خاصة في الاحتفاليات الهامة، ثم أقوم ببيعها، ثمن الصورة بالنسبة لمسعد يختلف من شخص لآخر: كل شخص حسب مقدرته، وحسب وضعه الاجتماعي، فقد أبيع صورة بجنيهين وأخرى بعشرين جنيها.

مع انتشار ظاهرة المدونات على الإنترنت انتشر مصورون متجولون من نوع جديد، يتكاثرون في المظاهرات، يصورون التجاوزات والانتهاكات، ويقومون بنشر هذه الصور في مدوناتهم، ويمكن القول إن بعض هذه الصور استطاعت أن تكشف الكثير مما لم يستطع كشفه مصورو الصحف المحترفين.

مهنة التصوير مرتبطة بالأساس بالشارع، والفارق بين مصور الصحيفة والمصور المتجول أن هذا الأخير يعيش في الشارع، ويعمل ويبيع في الشارع، ليس له مشتر سوى هذا الشارع، وقد يكون أكثر احترافاً من مصور الحفلات، لأنه حسب كلام عم يونس «يتعامل مع نماذج مختلفة، وشرائح مجتمعية بعضها يعتبر التصوير عيبا».

ما يفعله العم يونس بعد التقاطه الصورة وأخذ ثمن التقاطها: إما إعطاء إيصال للعميل ليأخذها في اليوم التالي من الأستوديو الذي يتعامل معه، وهو عادة ما يكون قريباً من مكان التصوير، أو أن ينتظر صاحب الصورة قليلا حتى يعود إليه بها بعد ساعات، أو في اليوم التالي.

«الأرزاق على الله».. هذا هو المثل الذي يؤمن به عم يونس. يخرج في الصباح قاصدا حديقة الحيوانات التي يفضل العمل فيها، لا يعرف ما الذي سيحدث بقية اليوم. ما يسعد عم يونس أنه يعقد علاقة صداقة مع بعض زبائنه الذين قد يعودون بعد شهر أو أكثر إلى المكان فيحيونه، ويحدثونه عن صورة التقطها لهم، ومع مرور الزمن، وتقدمه في العمر يرغب عم يونس في الاستقرار، في أن يفتح «استوديو» صغيرا حيث يسكن في «الملك الصال» يقضي فيه ما تبقى من عمره، ولكن لأن «الرايح على قد اللي جاي» حسب تعبيره، فهو يحمد الله على أنه يعمل ما يحبه. المصور المتجول ابن شرعي للشارع، يعرف فن التقاط الصورة المناسبة، تحفظ ملامحه الأرصفة وتخلص له، يعود آخر الليل من عمله منهكا، يذهب للأستوديو الذي يتعاون معه، يسلمه حصيلة يومه، ويحاسبه على الصور، يخرج عائدا إلى بيته، يداه في جيبيه، كاميرته معلقة في عنقه، يسير بتؤدة مدندنا بأغنية قديمة كما يليق بأحد أساطير الشارع.