حي الزمالك .. ساكنوه غربيون بملامح شرقية .. وشوارعه تومض بالأرستقراطية

عاش فيه عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم.. وشهد الخطوات الأولى لإدوارد سعيد

TT

حين تدخل حي الزمالك أشهر الأحياء الأرستقراطية بالقاهرة تجذبك وجوه المارة التي تختلط فيها ملامح غربية وشرقية، وتحس بأنها تمشي في اتجاهات عكسية، تتقاطع أحيانا مع المحلات التي اصطفت على جانبي شارع 26 يوليو الشهير بالحي ليشعر زائره انه في أحد أحياء أوروبا التي يسكنها العرب وليس العكس، انه حي شرقي يسكنه أجانب.

وعلى مقربة من مقهى «عمر الخيام» أقدم مقاهي الحي، يجلس «عم سيد» بجانب جرائده ومجلاته ومعظمهما باللغة الأجنبية وكأنه يعيد قراءة علامات الزمن التي تكسو ملامح وجهه وفشلت في إخفاء ملامحه الأوروبية، فالعيون زرقاء والبشرة خمرية احترقت من لهيب الشمس بسبب جلسته الطويلة أمام جرائده ومجلاته التي يشتريها زبائنه الأجانب من ساكني الحي الراقي أو العاملون في السفارات الأجنبية بهذا الحي.

يحكي «عم سيد» وهو يردد أغنية الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام الشهيرة:

«يعيش التنابلة في حي الزمالك وفي الزمالك مسالك مسالك، تفكر يا مسعد تقرب هنالك توفر حياتك بلاش المهالك» يحكي انه ولد بهذا الحي لأن أسرته تسكن حي الزمالك منذ زمان بعيد، خاصة انه يحمل عرقا فرنسيا في دمه لأن أحد أجداده تزوج من فرنسية يتباهى بها وينطقها أمام زبائنه، ويفتخر بأصوله الفرنسية، فالفرنسيون ـ علي حد قوله ـ هم الذين قاموا بتخطيط هذا الحي الى جانب الإيطاليين، ويقصد بذلك المهندسين الذين استقدمهم الخديو إسماعيل لتخطيط وبناء الحي بجانب سراي الجزيرة التي بناها علي مساحة 60 فدانا وشهدت احتفالات افتتاح قناة السويس عام 1869 وأقامت فيها الإمبراطورة أوجيني إمبراطورة فرنسا عند زياراتها لمصر، كما شهد السراي أفراح اسرة الخديو، وأصبح الحي منافسا لحي جاردن سيتي الذي اشتهر بحي الطبقة الأرستقراطية نظرا لإقامة معظم الباشوات والبكوات وذوي المناصب العليا فيه بحكم قربه من مقر الحكم في عابدين.

لكن معظمهم انتقل بعد ذلك للسكن في حي الزمالك الذي أصبح حي السفارات بالرغم من شهرته بأنه حي الطبقة البرجوازية خاصة في بدايات القرن العشرين.

ويستمد حي الزمالك موقعه المتميز من كونه جزيرة يطوقها النيل من كل الجهات، وترجع بداية إنشائه الي عهد الخديو اسماعيل في شكل أخصاص من البوص أقامها أهل الغناء والطرب ليقيموا حفلات اللهو والغناء وفي مواجهة حي «الكيت كات» الذي كان يعرف آنذاك بحي المسارح والملاهي.

وربما كان هذا التاريخ سببا في اتجاه سيدة الغناء العربي أم كلثوم للسكن في هذا الحي لتستلهم روح الطرب والغناء المحفورة في ذاكرته، لكن فيلا أم كلثوم تحولت الآن الى فندق وبرج.

ولا يخلو حي الزمالك من كثير من المعالم الأساسية التي انحفرت في ذاكرة تاريخ شوارع مصر.. ويلاحظ المتجول في الحي أن أحياء السكن والقصور تتركز في الجزء الشمالي من جزيرة الزمالك، بينما الجزء الجنوبي تشغله حدائق مثل الأسماك والأندلس والزهرية والحرية والتي تعد من اشهر حدائق القاهرة، بالإضافة للأندية الرياضية مثل نادي الجزيرة الشهير برواده من أبناء الطبقة الأرستقراطية والفنانين ورجال الأعمال، ومركز شباب الجزيرة الملحق به، بالإضافة الي نادي الأهلي ونادي القاهرة. وتقع بجوار النادي الأهلي دار الأوبرا المصرية التي أنشئت حديثا في أوائل الثمانينات لتصبح جزءا من هذا الحي الذي يحمل في طياته آثار الطبقة البرجوازية مغلفة بمعالم الطبقة الأرستقراطية التي كانت من رواد المطعم الدوار الذي يعلو قمة برج القاهرة، ابرز معالم الزمالك. وترجع كتب التاريخ اسم الزمالك الى كلمة أعجمية تعني مجموعة من أكواخ البوص والقش، وكان أول ظهور لهذه الأكواخ عام 1372 في جزيرة حليمة التي كانت تقع شمال جزيرة أروى في ذلك الوقت، والتي سميت في ما بعد بالجزيرة الوسطى وأصبح باسمها اشهر شوارع حي الزمالك.

واتصلت جزيرة حليمة بجزيرة اروى لتصبح في ما بعد جزيرة واحدة سميت باسم جزيرة «القرطية» والتي أطلق عليها الفرنسيون فيما بعد اسم «بولاق» ـ أبو العلا في عهد الخديو عباس حلمي الثاني عام 1912 والتي توجد أمام سراي الجزيرة من الضفة الأخرى للنيل. ورغم هذا التاريخ المشترك بين المنطقتين، فإن لكل واحدة ملامح مختلفة على جميع المستويات. فحي بولاق على عكس الزمالك مغرق في شعبيته حتى النخاع.

وانتقلت عائلات أرستقراطية للسكن في حي الزمالك ومنها عائلة «لطف الله» التي اشترت سراي الجزيرة وسكنت فيه حتى فترة الستينات، وقامت الدولة بمصادرته كجزء من الأملاك العامة. وحاول الدكتور محمد عبد القادر حاتم وزير الإعلام والسياحة استغلال سراي الجزيرة فحوله الى فندق يحمل اسم «عمر الخيام» الذي أصبح في ما بعد يعرف بفندق «ماريوت» متوسطا البرجين الفندقيين لسلسلة فنادق ماريوت.

والزائر لحي الزمالك الآن لن يرى «عم سيد» فقط وإنما سيمشي وسط شوارع لأسماء معروفة مثل حسن باشا صبري وزير المواصلات والتجارة والصناعة في حكومة علي ماهر باشا الأولى عام 1936 والذي تم تعيينه وزيرا للمواصلات ثم الحربية والبحرية في عدة حكومات، حتى قام بتشكيل الحكومة المصرية عام 1940 مرتين، ولكن في المرة الثانية ذهب الى البرلمان لإلقاء خطاب العرش سقط ليلفظ أنفاسه في قاعة البرلمان تاركا اسمه على أحد أهم شوارع حي الزمالك والذي يضم عدداً كبيراً من السفارات والقصور والفيلات ذات الطراز المعماري الفريد. أيضا من ابرز شوارع الزمالك شارع محمد باشا مظهر المهندس المصري الذي اختاره محمد علي باشا ليكون ضمن أول البعثات الدراسية التي أرسلها الى فرنسا عام 1826 ليدرس الهندسة البحرية، وعاش في فرنسا 10 سنوات، وتقلد عددا من المناصب. ومن المشاهير الذين عاشوا بحي الزمالك إضافة الي أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وسعاد حسني، كما شهد الحي الخطوات الأولى للمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد حين سكنت أسرته الحي بعد رحيلهم من فلسطين في أربعينات القرن الماضي.

أسماء الشوارع والأحياء داخل جزيرة الزمالك تحمل في الغالب ملامح الدولة الأيوبية بالرغم من أن هذه الجزيرة لم تكن معروفة كحي سكني أيام الدولة الأيوبية، مثل شارع شجرة الدر وشارع الصالح أيوب وابن زنكي والمنصور محمد، لكن أحوال هذه الشوارع تغيرت الآن حيث امتزجت بملامح العصر الجديد من مقاه عصرية أقيمت به ومراكب نيلية ومراكز تجارية تبيع كل ما يحتاجه الفرد ولكن بأسعار الزمالك الخاصة ليشعر من يزورها انه انفصل عن المكان والزمان وان حواسه مشدودة لرائحة يختلط فيها طمي النيل بعبق الورود والأزهار.