أسراب الحمام تهاجر من أماكن بعيدة لتسكن البيت الحرام وتتوالد فيه

أسوة بالبشر في توجههم إلى مكة المكرمة

TT

تعد ساحة الطرف الأغر بلندن، وساحة بلاش كونكورد الباريسية، من أشهر الساحات التي تمتلئ بطيور الحمام وتستقطب الكثير من السائحين حول العالم، وفي خضم هذا التنافس، تطل الساحات الخارجية للحرم المكي وصحن المطاف، كأكبر تجمع لأسراب الحمام، ويقبل الحجاج والمعتمرون في مواسم الحج والعمرة مستمتعين بطرح الحب تحببا لـ«حمام الحمى»، كما يطلق عليه العامة في مكة المكرمة، وربما كان من أكثر المداعبات اللطيفة التي تحصل للحاج منهم، كما عبر ياسر الحلبي أحد المعتمرين السوريين «من اللحظات الرائعة، عندما يقع الحمام على أكتافنا أثناء الطواف»، وفي الوقت الذي يقوم الحمام بخطراته على أرض الحرم، وفي ساحاته، ليكون متعة للزائر، تشكل هجرته واحدة من أهم المميزات والدلائل والرموز، التي ارتبطت بالمكان، خلال وجوده سواء داخل أو خارج الحرم.

وارتبطت مشاهدة حمام الحمى في الحرم المكي بالذاكرة المكية، كما أوضح عبد الله أبكر مؤلف كتاب «تراث مكة في القرن الرابع عشر»: «منذ ما يقارب العشرين سنة الماضية، كانت تشاهد فيها أسراب الحمام بشكل واضح وكثيف، في الساحات الخارجية للحرم وداخله»، فيما اقتصرت رؤية أسرابه حالياً في الساحات الشرقية والجهة الغربية والشمالية من الحرم المكي، في الساعات الأولى من الصباح إلى قبيل الظهر، كما جاء على لسان الخالة زينب بن سعيد، التي اعتادت الذهاب للحرم في هذا الوقت بشكل يومي، وقد كانت تؤمن قديماً للحرم المكي داخل المسجد الحرام «الخلاوي» أو الغرف الخاصة للحمام، والتي تمت إزالتها. وقد علق عبد الله أبكر قائلا: «تم تهجير الحمام أولا من خلال محاربة طرح الحب له في الساحات، ثم عملت السيوف الحديدية في شبابيك الحرم، والتي تمنع وقوع الطيور عليها بخلاف الأخشاب الموجودة سابقاً، والتي كانت تخلف الكثير من الأوساخ»، وقد كان من الأساسيات التي أوجبت التهجير بالدرجة الأولى، كما أوضح أبكر قائلا: «نظافة الحرم وصيانته»، وبين الألوان والأشكال المتعددة للحمام، يظل حمام الحرم محتفظاً بميزاته بحسب تعبير أبكر «يتسم لون الحمام المكي باللون الرمادي المائل للاخضرار، لكن يميل للزرقة من رأسه لرقبته، وفي طرف جناحيه وذيله خطان أسودان لا يوجد لهما مثيلا»، وبين التساؤلات الكثيرة التي وردت حول أصل حمام الحرم، تطل قصة الحمامتين اللتين عششتا أمام غار الرسول عليه السلام، والتي ترجح الأقوال أن الحمام المكي من نسلهما في حين لا يوجد دليل قاطع يؤكد صحتها.

ويعزو أبكر ذلك إلى أن أحداً لا يعرف شكل أو لون تلك الحمامتين، في حين يتناقل البعض أقاويل على أنه ليس من الحجاز أصلاً، بل إن أوروبا هي موطنه الأصلي، الذي قدم منه ليسكن البيت الحرام ويتوالد فيه، فيما استوطنت أسراب منها مدينة الحبيب بحسب الروايات القديمة، التي أوردت قصة السرب، الذي توجه صوب طيبة، وأعجبته السكنى فاستقر فيها، واشتهر في الحرمين، وقد شكل الحمام جزءاً من نسيج الحياة الاجتماعية والثقافية للبيت المكي قديماً، ولا يزال بحسب تعبير أبكر «اعتادت البيوت المكية على تربيته ليس من باب الحيازة، بل إنه يتم إطلاقه»، في الوقت الذي يملك فيه الحمام حق الاختيار في البقاء، أو العودة من دون حبسه أو سجنه داخل الأقفاص.

وفي الوقت الذي اشتهر فيه الحمام برمزيته، من خلال استخدام الحكومات والشعوب له في التعبير عن سعيها الدائم للسلام بين الدول في المحافل الدولية والمؤتمرات، والتي يبرز فيها الحمام كراع للسلام، يعمل على تقريب وجهات النظر، في وقت أصبح فيه الاختلاف وتباين الآراء من القواعد الأساسية للديمقراطية، يظل الحمام الطائر الوحيد الجامع للحكمة والفهم بين جميع الطيور، كما أشار لذلك عبد الله أبكر، ولم تقف رمزية الحمام عند هذا الحد، بل تعدته ليكون الطائر المعلم للإنسان في الحب والإخلاص الذي يربط بين الشريكين في الوقت الذي لا يفارق فيه ذكر الحمام أنثاه، تظل سمة الأمان هي السمة الأبرز لحمام الحرم، دون باقي الأنواع.