«فليت ستريت» من شارع للصحافة إلى حي للمقاهي

أكثر من عشرين مقهى في أقل من 500 متر

TT

اقترن اسم «فليت ستريت»، سابقا ولا يزال، ليس في بريطانيا فقط وانما في جميع انحاء العالم، بشارع الصحافة. وكان يطلق عليه ايضا «شارع العار» بسبب ما تنشره من فضائح المؤسسات الصحافية التي كانت منتشرة على جانبيه لعشرات السنين.

وحتى المؤسسات الصحافية المهاجرة كانت تحاول جاهدة الاقتراب منه حتى تبقى قريبة من مكان التنافس الاعلامي والخبري، ومنها جريدة «الشرق الأوسط»، التي افتتحت مكاتبها في بداية عهدها في احد الميادين المتفرع من الشارع. اما الآن وبعد ان هجرته تلك المؤسسات الى مناطق مختلفة من لندن، الى شرقها وغربها، اصبح الشارع مكانا للمنافسة بين المقاهي والمطاعم مثل «ستاربكس» و«كوستا» و«ايت» و«بريت مانجيه»، التي تقدم خدماتها للعديد من العاملين في المؤسسات المختلفة وبيوت الاستثمار التي اصحبت هي «سيدة المكان» الآن.

وبالرغم من ان طول الشارع لا يتعدى الـ 500 متر، إلا انه يحتوي الآن على اكثر من 20 فرعا لسلاسل المقاهي والسندويشات، التي يمتلك بعضها أكثر من فرع واحد في نفس الشارع، كما هو الحال في مقهى «ستاربكس»، الذي يمتلك ثلاثة فروع.

التغير الذي شهده الشارع في السنوات الأخيرة يشكل انقلابا لهويته بـ 180 درجة، من ناحية سلوك مستخدميه ومهنهم. في السابق كان يعج بالصحافيين المعروفين بلقاءاتهم المتكررة طيلة ساعات العمل، وأحيانا بسببه، في أماكن الشراب (الحانات) يتبادلون القصص والإشاعات من داخل وخارج المهنة. وساعات عمل هؤلاء، حسب القصص التي كانت متداولة آنذاك، كانت مرنة الى درجة ان «غداءهم السائل» كما يطلق عليه كان يمتد لساعات مما ينسيهم الرجوع الى صحفهم، التي تكون قد اغلقت اعدادها لذلك اليوم.

أما اليوم فقد تغير كل شيء. فقد انتقلت جميع المؤسسات الاعلامية من المكان، وكان آخرها في العام الماضي مع رحيل وكالة انباء رويترز، التي كانت ولعشرات السنين تحتل رقم 85. وفي بناية «اكسبرس»، صاحبة صحيفة «ذي اكسبرس»، وبناية «التلغراف» صاحبة عدد من مطبوعات مثل «ذي ديلي تلغراف» و«صندي تلغراف»، أصبح هناك بدلا منها بنك «غولدمان ساكس» الاستثماري. وكذلك الحال بالنسبة للعديد من الشركات الاستثمارية والمتعددة الجنسيات وشركات المحاسبة. وطبعا سلوك العاملين في هذه المؤسسات يختلف تماما عن سلوك سابقيهم من رواد الشارع، ولهذا تسابقت سلاسل المقاهي في وجودها بالشارع لتقدم خدماتها المتماشية مع الثقافة الجديدة التي اجتاحت العالم من شرقه الى غربه خلال الـ20 سنة الماضية، خصوصا بريطانيا، التي ظلت تعتمد على حاناتها فقط كأمكنة للقاءات الاجتماعية. «استعمار سلاسل المقاهي» للشارع «فليت ستريت» قد تكرر في مناطق أخرى من العاصمة البريطانية وامتد الى المدن الشمالية في بريطانيا، المعروفة بمقاومتها للتغيير، مثل ليدز، الأمر الذي اطلق عليه بعض المراقبين اسم «استنساخ المدن». وقد حذرت «مؤسسة الاقتصاد الجديد» البحثية البريطانية من توسع هذه الظاهرة وازدياد عدد المقاهي، ومكاتب بيع العقارات وغيرها من السلاسل التي بدأت تطرد الدكاكين التقليدية من أماكنها وبالتالي تجرد المدن والشوارع من خصوصيتها.

وقام أهالي المناطق في بعض الشوارع التقليدية في العاصمة البريطانية بالضغط على مجالس البلدية لمنعها منح رخص التجارة لهذه السلاسل من المطاعم والمقاهي من أجل الحفاظ على طابعها التقليدي.

ولحسن الحظ أن شارع فليت ستريت وبالرغم من هذا النوع من «الاستعمار» فقد احتفظ ببعض الحانات القديمة في الشوارع المتفرعة منه والتي ما زالت تجذب السياح اليها بسبب عراقتها وتاريخها. وبالرغم من هذا التغيير إلا ان بعض المعلقين يعتبرون أن ما حدث أخيرا للشارع هو في الواقع عودة الى الأصول. السبب في قول ذلك هو ان الشارع كان في القرن الثامن عشر يضم عددا من أكثر مقاهي لندن رواجا. ويضيف هؤلاء ان الفرق الوحيد هو بدلا من تقديم «سائل اسود من السخام او صبغة الأحذية» (قهوة رديئة) أصبح يقدم قهوة الذواقة من الكاباتشينو واللاتي والاكسبرسو.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا يعتبر البعض هذه النقلة او التغيير شيئا مأساويا؟ جميع المدن البريطانية، ومدن العالم أجمع، تمر في تغييرات مماثلة، فلماذا استثناء فليت ستريت؟ هل هذا بسبب ما يصفه البعض بالتكبر الانجليزي.. او بالتحديد الاعلامي منه؟