«مكان».. مكان للوقوف على الأطلال

يقدم حفلات «زار» ويبحث عن الفنون الشعبية المصرية المنقرضة

TT

بيت قديم، طلاء متساقط، مذياع خشبي كبير يعود إلى السنوات الأولى من القرن الماضي، قلة مملوءة موضوعة على شباك من الأسمنت، لمبات قديمة، مراوح معلقة في السقف، تليفون قديم، أكواب شاي قد تكون انقرضت، سلم حديدي يصعد إلى السندرة مفارش عتيقة على الأرض، كراسي ومناضد من التي تستعمل في المقاهي الشعبية، صور قديمة بالأبيض والأسود والبني المحروق معلقة لفنانين شعبيين، ملامح بيت مصري بسيط ينتمي إلى ريف مصر في منتصف القرن الماضي، ما مضى كان وصفا لمكان، و«مكان» هنا هو مركز ثقافي مصري أنشئ منذ قرابة العام والنصف للحفاظ على التراث المصري من الانقراض، الجميل في المكان الذي يعطيك إحساسا وكأنك في بيتك في قريتك البعيدة الطيبة، أنه كان مقرا لمطبعة جريدة «البلاغ» التي كانت تصدر في أوائل القرن التاسع عشر، والطريف كما أخبرني أحمد المغربي مدير المركز ومموله أن المكان ما زال يحتفظ بأشياء كثيرة من المطبعة، حتى تقسيم المكان لم يتدخل فيه، ولم يقم بتجديد أي شيء، فقط قام بتركيب عازل صوت حتى لا يصل ضجيج الشارع إلى المكان.

«مكان» الذي يقع بجوار ضريح الزعيم المصري الراحل سعد زغلول بالقاهرة، تقوم فكرته الأساسية على الحفاظ على التراث المعرض للانقراض، الحفاظ على الفنون الشعبية التي هجرها الناس مع أنها تمثل جزءا هاما من ذاكرة المجتمع، لكن الفكرة الأساسية بدأت من منطقة الهرم قبل ثلاث سنوات عندما أنشأ المركز المصري للثقافة والفنون، لكنه ظل يبحث عن مكان يناسب الحدث، حتى وجد المطبعة التي كانت مهجورة منذ الخمسينيات منذ عام ونصف العام، فقام بتجهيزها.

مهمة «مكان» هي الحفاظ على التراث، ولو جلست قليلا مع أحمد المغربي فسيحكي لك عن رحلاته في صعيد مصر ودلتاها وفي النوبة بحثا عن هذا التراث الذي ينقرض ويموت حفظته واحدا وراء الآخر، وأول خطوة يفعلها أنه يبحث عن حفظة التراث الذين تتراوح أعمارهم ما بين 70 إلى 80 عاما، وهم بالمناسبة يعدون على أصابع اليد الواحدة في الألوان النادرة مثل الزار، أو المديح النبوي أو السيرة الهلالية، والقصة، والإنشاد الديني والموال، أما الأنماط المنتشرة من بعضها فالكثير منها مقلد وليس حقيقي.

ما يفعله المغربي في «مكان» هو البحث والتنقيب في قرى مصر ونجوعها عن هذا التراث، ويقول «أصبح لدينا أرشيف له أهمية، لدينا تسجيلات نادرة لفنون اندثرت سجلناها قبل أن يرحل آخر رواتها مثل الزار والموال والقصة والأغنية الشعبية في النوبة»، ويعمل «مكان» عن طريقة خطة بسيطة: أننا أمام شجرة تعيش في بيئة غريبة، وهذه الشجرة معرضة للتدمير ويجب نقلها إلى بيئة أخرى مع الاحتفاظ بقيمة الشجرة، الشجرة هنا هي التراث المعرض للانقراض، والبيئة الجديدة هي «مكان».

أم سامح التي تقدم حفلات زار في «مكان»، لا تقدمه كطقس، لكن كجماليات فنية موسيقية وأدائية، كفن مصري قديم يحمل عناصر فنية وموسيقية غير موجودة في الفنون الأخرى، وربما كان الزار هو الفن الذي عاش في الظلام طويلا في مصر لارتباطه بممارسات غير مستحبة، ولأنه كان فكرة مستهجنة وما زالت، فعاش في الغرف المغلقة محافظا على نجومه وعلى تفرده غير مرتبط بأي موسيقى أخرى، ولا بأي مفردات أخرى، فالآلة الموسيقية اسمها عدة، والغناء اسمه دور، وهكذا.

المشكلة الحقيقية التي تواجه مثل هذه الأماكن أنها تقدم التراث كقطعة من المتحف المضحك في اعتقاد المغربي والمؤسف في آن هو أن الحكومة تعامل المكان في الضرائب كما تعامل الملاهي الليلية وندفع 20 في المائة ضرائب، ويقول «تصور محصل الضرائب الذي يذهب إلى ملاهي شارع الهرم هو نفسه الذي يأتي إلينا رغم أننا لسنا مكانا يبحث عن الربح، المحصل نفسه يستغرب ذلك». ويضيف «وزارة الثقافة تقسم الفن بطريقة غريبة فهناك الفنون الراقية مثل الباليه وفرق الموسيقى العربية وهؤلاء يدفعون 5 في المائة فقط، أما نحن فنعامل معاملة الملاهي الليلية مع أننا نقيم حفلات للشيخ محمد الهلباوي».

يقدم «مكان» فكرة المكان الصغير «المحندق»، الذي لا يوجد فيه ميكروفونات، يجلس فيه الجمهور على الأرض على بعد مترين من الفرقة، التي تغني بشكل مباشر وتتفاعل مع الجمهور، تعيد إحياء فكرة «الونسة» و«السهراية» والجلسة التي يحدث فيها الالتحام بين الجمهور والمؤدي، تماما كما كان يحدث على المقاهي الشعبية في بدايات القرن الماضي، الضوء البسيط، والذي يصلح أن نصفه بالقديم أيضا، في مكان لا يستوعب أكثر من 60 فردا يدخلون بتذاكر سعرها منخفض للغاية، يتحولون إلى مريدين مع الوقت، مهنهم تتباين، فمنهم السياسي ومنهم أجانب يسكنون بالقرب، طلبة في الإعدادي، عابر سبيل باحث عن الثقافة.

ولأنك عندما تدخل المكان ستشعر أنك عبرت الزمن إلى زمن قديم، لا يوجد فيه ثلاجة، بل قلة، لا يوجد فيه تكييف بل مروحة، حتى السلم الذي يصعد بك إلى السندرة التي يوجد بها جهاز كومبيوتر وصالة بسيطة، هو سلم المطبعة القديم، السلم الحديدي الذي يجب أن تحترس وأنت تصعده حتى لا تسقط، حتى لو دخلت الحمامات ستجد البلاط القديم، الموازييك، الأشياء الأرخص، لكنها الأجمل، هو أساس الفقراء في مصر، لكنه يجمع بين الإمكانيات والجماليات المطلوبة.

نجحت «مكان» في تكوين أرشيف جديد للتراث المصري، أصدرت ثلاثة شرائط كاسيت، ما زال المغربي يبحث وينقب، لكن يبقى سؤال مطروح، هل ما تفعله «مكان»، مجرد بكاء على أطلال، أم هو بناء جديد لهذه لأطلال.