الـ«داون تاون».. خالية من كل شيء ما عدا الوجوم

الحصار يخلي الفنادق والمطاعم.. ويوقف حتى صوت «فيروز»

TT

سقط لبنان ساكتا في وضح النهار. خلت المقاهي من مرتاديها. وبدت منطقة السوليدير، نبض لبنان المفعم بالحياة، خالية من المارة، مغلقة الأبواب. حيث أسكتت المدافع وأزيز الطيران الإسرائيلي صوت فيروز، الذي يسكن كل مقهى من مقاهي بيروت العتيقة، فيروز التي دائما ما تصدح بأغنية «بحبك يا لبنان يا وطني«.

والحال نفسه ينطبق على الفنادق، التي امتلأت أخيرا بالسياح الذين جاؤوا ليتعرفوا على بيروت التي لم يعرفوها من قبل، او الذين عادوا لها لإنعاش ذاكرة قديمة، أذبلتها الحرب الأهلية قبل عشرين عاما وأكثر، وكاد يقضي عليها اغتيال رفيق الحريري قبل عامين، فوجدوا أنفسهم مجبرين على رؤية سورية التي لم تكن في خريطة اجازتهم.

قدر لبنان أن يصبح متنفسا لكل شيء، حتى لصراعات أهل السياسة. بيروت التي الفت الأزياء، والغناء، والمعسل، والشعر، وأزيز الطائرات التي دائما ما تخترق جدار الصوت، تخلو اليوم من عشاقها، بين خائف قرر أن يحتجز نفسه في منزله، وسائح يحلم بالفرار من مدينة يضربها الطوق الإسرائيلي جوا وبرا وبحرا. وطائرات اعتادت على نقل السياح فرت بلا ركاب الى الاردن لتسلم بنفسها من الدمار. حال السياحة في لبنان لخصه وزير السياحة اللبناني جو سركيس، الذي قال «الموسم السياحي انتهى»، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية، وذلك بعد أن كان اللبنانيون يعتقدون أن الموسم الحالي، سيكون الأبرز لهم منذ سنوات. منطقة السولدير، أو وسط بيروت، حيث يرى الزائر لبنان القديم بحلة جديدة، المنطقة التي عادة ما تعج بالمقاهي والمطاعم، وفيها تعود العرب ان يتفرجوا على لبنان وأنفسهم من خلال التجول، او الجلوس في مقاهيها التي تصدح بأغاني لبنان، ومنها ينتشر عبق فيروز، فقد بدت خالية من كل شيء، ما عدا الوجوم.

يقول اللبناني إميل، وهو صاحب محل «سوشي» في بيروت، افتتحه في اكتوبر (تشرين الأول) عام 2004 بعد أن عاد الى بيروت من دولة الإمارات العربية المتحدة «حصل نحو 17 انفجارا منذ ان افتتحت المطعم.. واليومان الماضيان قصة أخرى»، او قد تكون القصة الأكبر.

ويضيف إميل لـ«الشرق الأوسط»، انه عاد بعد ان كان هناك اجماعا على «الأمل في أن يحل السلام، وتنتهي الحرب والأحداث الأمنية». ولكن بعد ما شاهد الشاب الثلاثيني خلال الأيام الماضية ابواب الجحيم، وهي تفتح على لبنان، فإنه يقول «إما أن ينتهي الأمر الآن وتحل الأمور نهائيا.. أو أننا سنبقى نتقاتل لعشرين عاما آخرى»، وهذا ما يخشاه لبنان واللبنانيون.

وفي الوقت الذي يحاول فيه السياح الفرار من لبنان، لم يكن لهم منفذ الا من البر عبر سورية، فالطائرات التي كان من المفترض ان تقلهم الى اوطانهم، فرت بلا ركاب الى الاردن، لكي تنجو من القصف الاسرائيلي. حيث يتعرض مطار بيروت الى قصف مستمر في بعض اجزائه، ولا يمكن السفر جوا حيث الحصار المفروض على لبنان يطال الجو والبحر، والبر. وفيما يواصل السياح، من كل الجنسيات، مغادرة لبنان، نصحت دول عدة مواطنيها بعدم زيارة لبنان، ورتبت أخرى خروج مواطنيها منه، وبين ليلة وضحاها بدأت تخلو الفنادق اللبنانية التي كانت تعاني من ازدياد الطلب، وطلبات الوساطات للحصول على حجوزات فيها، وملأ الهدوء ردهات الفنادق، وغاب الطلب على القهوة، او الحلويات اللبنانية، وغاب المشهد المألوف في بيروت، حيث تحضر جميع الدول بسحنات أبنائها في لبنان العاشق للتنوع، حيث ان التنوع قدر لا اختيار.

الفنادق باتت تشهد حركة في اتجاه واحد وهو الخروج، حيث يشاهد المقيمون وهم يهمون بالخروج برفقة ذويهم وحقائبهم الى الحافلات او السيارات التي تقف في انتظارهم لنقلهم الى دمشق، وهي المخرج الوحيد المتوفر حاليا.

يذهبون الى سورية التي لم يخططوا لزيارتها، ولم تكن في خريطة اجازتهم. وتعليقا على هذه المفارقة نقلت وكالة الأنباء الفرنسية، عن النائب اللبناني اكرم شهيب قوله «في وقت تفرغ فيه فنادق بيروت، فإن نظيراتها في دمشق تمتلئ (بالسياح)».

يذكر أن أكثر من 12 الف سائح من دول الخليج، قد شرعوا في مغادرة بيروت يوم الخميس الفائت، عبر نقطة المصنع الحدودية مع سورية، ولا تشمل هذه الارقام، بالطبع، السياح من جنسيات أخرى والذين غادروا لبنان، خصوصا الاردنيين والسوريين والايرانيين.

القصف الاسرائيلي للبنان لم يلغ إجازات السياح وحسب، بل اسكت حتى الغناء، في مدينة يسكت فيها كل شيء، الا الفن. ففي الاربعاء الفائت وقفت فيروز، وهي قليلة الظهور حتى في موطنها لبنان، في قلعة بعلبك، متوهجة في عرض اول للمسرحية المستعادة «صح النوم»، التي قدمها الرحابنة في السبعينات من القرن الماضي. لكن العدوان الإسرائيلي كان هو العنوان الأبرز، حيث قال للبنانيين «صح النوم»، لا مكان لمشاهد من التاريخ الفني هنا. دائما الحاضر في لبنان الحرب. توقف عرض المسرحية التي انطلقت مجانا في عرضها الأول جريا على العادة المتعارف عليها في مهرجانات بعلبك، لكن محبي فيروز لم يتمكنوا من استكمال متعتهم في الاستماع لصوتها، صوت بيروت، مثلما أن السياح لم يستمتعوا بلبنان.