الهروب من قبضة «الإسمنت» إلى أحضان «الطين»

في مركز الملك عبد العزيز التاريخي

TT

«رائحتها تمسك بالذاكرة وتهزها، تطرد كل ما هو غير طيني، عبق الماضي وعرق الأجداد في زواياها، سأرتمي للحظات في أحضان طفولتي».. كانت أولى كلمات سعد السويلم، معلم سعودي يبلغ من العمر 52 عاماً، الذي تجول مع عائلته داخل البيوت الطينية في مركز الملك عبد العزيز التاريخي، وسط العاصمة السعودية.

ويضيف أبو خالد، «الإسمنت حاصرنا في كل تفاصيل حياتنا، وجعل يومياتنا بلا رائحة، حتى مع نزول المطر، الذي كان يغسل منازلنا الطينية في فترات بسيطة من العام، فتفوح برائحة الطين التي تتغلغل داخل الرئتين».

وتقع البيوت الطينية إلى الغرب من قصر المربّع التاريخي، وتبرز أهميتها التاريخية في كونها الجزء الرئيس لمجموعة قصور الملك عبد العزيز، رحمه الله، ولأنها تمثّل النسيج العمراني التقليدي لفترة حكم الملك المؤسس، وجددت بعض المساكن الطينية وتمت تهيئتها بشكل يتواءم مع المنطقة التاريخية والأثرية القابعة في قلب مدينة الرياض، إلى جانب مواقع أخرى، إضافة إلى البرج القديم وبقايا السور القائمة في شمال الموقع، للدلالة على حدود منطقة قصر المربع القديمة.

الطفل سامي العلي، 12 عاماً، رفع حاجبيه دهشة من المناظر الداخلية والخارجية للبيوت الطينية، ولامس بيديه، لأكثر من مرة، جدران المنازل، ثم أمسك يد والده وقال «زمان، ما كان عندهم إلا لون واحد فقط؟!»، فأجابه والده بـ«نعم».

من جهتها، ذكرت حصة الدوسري، معلمة سعودية، أن المنازل القديمة التي تجولت فيها منسجمة مع الأرض، فهي مشيدة من دون إضافة أو تعقيد، ولم تكن لتحتمل الديكورات الحديثة من الجبس والزجاج والدهانات المختلفة الألوان، مضيفة «أمي ماتت قبل عشرة أعوام، وكانت أمنيتها الوحيدة، استبدال بيت الشعر «الخيمة» الموجود في باحة منزلنا، بغرفة صغيرة من الطين، مليئة بأواني وأثاث الحياة في الماضي، تمنيتها اليوم أن تتجول معي هنا، وأظن بأنها ما كانت لتعود معي إلى البيت».

في 23 يناير (كانون الثاني) 1999، افتتح خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، مركز الملك عبد العزيز التاريخي في قصر الحكم بالرياض، ضمن فعاليات الاحتفالات بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، وقد تمت المحافظة على المباني الطينية الواقعة إلى الغرب من قصر المربع، لكونها ما زالت محافظة على درجة من التماسك، يساعدها على البقاء لفترة أطول، مع السور القديم، كما تمت المحافظة على أحد البيوت الطينية المتهدمة الواقعة في الجهة الشمالية من المنطقة، بالقرب من البرج الطيني، وتم الإبقاء على معظم جدرانه المتهدمة ليتمكن زوار المتنزه من العبور من خلاله والتعرف على كيفية شكل البناء القديم وتصميم الفراغات الداخلية فيه.

وتشهد منطقة البيوت الطينية في مركز الملك عبد العزيز التاريخي خلال الشهر الجاري، وطيلة يومي الخميس والجمعة، حضورا متميزا من زوار وسكان مدينة الرياض، ممن رغبوا في مشاهدة مهرجان التراث والحرف اليدوية في البيوت الطينية، وذلك بمشاركة أكثر من 32 حرفة، من ضمنها حرف تراثية ومشغولات يدوية وعرض للملابس التراثية وأكلات شعبية وعرض لوحات وطنية ومشغولات تشكيليات وإلقاء قصص شعبية (ليالي البادية) وأمسيات شعرية، وتخصيص مسابقة لأحسن قصيدة وطنية للمشاركات، كما تتضمن الفعاليات أداء الأناشيد الوطنية من خلال أطفال تتراوح أعمارهم بين 5 و9 سنوات في صالة يقتصر دخولها على النساء والأطفال فقط، وذلك يوم الخميس من كل أسبوع. فيما خصص جزء من المسرح في هذه الصالة لمسابقات النساء والأطفال التي تقام كل يوم جمعة.

وتتشابه البيوت الطينية في منطقة نجد، التي تشيد من الطين، وهو نوع من التربة، يشكّل ويجفف بعد إضافة الماء له، ويسمى «اللبن»، وهو على شكل مستطيل مقوس من أعلى، بعد صبه في إطار خشبي، ولا تبنى البيوت الطينية من الطين فقط، بل يستخدم الحجر في الأساسات والأعمدة، إضافة إلى «التبن»، وهو قصبات صفراء صغيرة من سنابل القمح، تستخدم لتجعل الطين متماسكاً، ويستخدم خشب «الأثل»، شجر ينبت عادة في الأودية والواحات، موجود بكثرة في منطقة نجد، في أسقف المنازل، بعد تقطيعه إلى مقاسات متساوية، ويجفف تحت أشعة الشمس لمدة طويلة.

كما تستخدم جذوع النخيل عادة في الأبواب الخارجية، لأنها قوية وثقيلة، وتحمي البيت من الداخل، بعد تهذيبها وربطها بجريد النخل، بعد ذلك تأتي عملية «الطم»، وهي وضع كمية كبيرة من الطين على السقف، أما «الجص»، فهو مسحوق أبيض يضاف إليه الماء، سريع الجفاف، ويستخدم للتزيين وتحديد النوافذ والأبواب، وكذلك شرفات البيت من الخارج، ويستخدم تحديداً في مجلس الرجال، الذي جرت العادة على «تجصيصه»، ويسمى «روشن»، إذا كان في الدور العلوي.

ويبنى بيت الطين عادة على شكل مربع أو مستطيل، يوجد به فناء داخلي لتهويته في الصيف، ويسمى بطن البيت، وتحيط به الغرف من جوانبه، وفي الغالب يوجد سور جانبي لتربية المواشي، ويتكون البيت من دور أو دورين.