مخلوقات خرافية تلعب بأسرار البياض في أصيلة

في معرض جديد للتشكيلي المغربي سهيل بنعزوز

TT

لا يمكن لزائر المعرض التشكيلي، الذي اقيم لآخر اعمال الفنان المغربي سهيل بنعزوز الا ان يلاحظ تطور قدراته في اغناء عمله، انطلاقا من معطيات محدودة. فمعظم الاعمال الثلاثين التي حواها المعرض المقام برواق «أبلانوس»، الواقع في الجزء التاريخي من مدينة اصيلة المغربية «شمال»، يمكن ان تعتبر تنويعات على البياض وأصل الالوان، الذي لا تخالطه، عند بنعزوز، الا تقاسيم مشابهة له مثل الازرق النيلي والبرتقالي الخفيف الى درجة الشفافية وحبات من الزرقة المقتربة من السواد، الضرورية لتشكيل مآقي عيون المخلوقات، التي اختار الفنان ان يجسدها بعد خروجه من مرحلة تجريدية طويلة.

وكائنات المعرض هي في الحقيقة مخلوقات تقريبية تحتمل ازيد من قراءة وأكثر من تأويل، سواء من حيث اوضاعها أو التعبيرات النفسية الفائضة من وجودها. ثمة لقالق ليلية وثدييات وطيور وحشرات خرافية وحّبارات، نابعة جميعها من قاع متخيل غائم ومظلم الى حد التفجر، على شكل دفقات بياض يتمازج فيها العنف والدعة والحركة والسكون والحياة واحتمالات انطفائها.

احدى اجمل اعمال المعرض لوحة من دون عنوان، تصور ما يشبه كروموسومات «صبغينيات» الكائن البشري قبل التشكل. انها استعادة لصور الخلايا المتناهية في الصغر، التي هي اصل الوجود، والتي يرسمها بنعزوز مكبرة بتقاسيم انسانية. وحتى الحيوانات الخرافية التي يصورها، تبدو مستسلمة تماما وادعة ومجردة من عنفها. وهي تترجم بذلك نوعا من الحكمة، التي اختار الرسام ان يلبسها لباسا حيوانيا، ان يسجيها على الكرتون المستعمل، ويمزج اعضاءها بالجير، مستخرجا تنويعات متعددة من مادة محدودة ظاهريا، غير انها تخفي في داخلها ما لا يمكن حسابه من الاحتمالات تماما كالزمن والانسان.

ان الامر يتعلق اذن على مستوى المواد المستخدمة بمكونات موجودة بكثرة في البيئة المحلية لمدن شمال المغرب: الكرتون المستعمل، الجير الذي تطلى به المنازل، النيلة، وهي خلطة من الجير ذي الزرقة اللازوردية الخفيفة والبرتقالي الذي يذكر بلون الحناء الشائعة الاستخدام بهذه المنطقة. والمواد المعتادة تتداخل، عند بنعزوز، كي تنتج حركية من نوع خاص: انبثاقات فجائية، وخبطات الوان فيها فوضى منظمة.

وتحدث الانبثاقات تارة على شكل توازيات مجردة ومستطيلات متناظرة من وحدات، وتارة اخرى على شكل تشخيصات تقريبية لكائنات حيوانية مألوفة او غير مألوفة، لكائنات يمكن ان ننظر اليها بعين الطفولة التي تضفي عليها بعدا اسطوريا حالما.

الناقد الفني الفرنسي فان تيجيم كتب عن هذا المعرض في ورقة تقديمية له قائلا: «تتضمن رسومات بنعزوز حشرات وطيورا وثدييات ترافق بعضها، تتعايش داخل فضاء اللوحات. لا يعاني أي منها من العزلة او الوحدة، انها تسبح في الحب وفي العلاقات الحميمة داخل فضاء اللوحة».

اما الشاعر المغربي المهدي اخريف المهتم بالحركة التشكيلية، فيقول عن نفس المعرض: «نشاهد في بعض اعمال المعرض مجموعات من الذئاب الصغيرة المجنحة، التي اذابها التشخيص في الفراغ.. وكل الكائنات الحيوانية المصورة في تسع من لوحات بنعزوز لها حركات وسكنات خفيفة برتقالية غنائية. لذا فهي تمثل دعوة للامساك بتدفقات البياض، وبندى الجير القادم من كتابة تشكيلية غنائية حارة، موحية وثرية. لذا يمكن ان نقول ان سهيل بنعزوز هو الطفل الذي يرفض ان يشيخ، مواصلا اللعب باسرار البياض».