فنانون تشكيليون يقتطفون من الدمار لوحات تنبض أملا

وسط ساحة ركامية في الضاحية الجنوبية لبيروت

TT

الفضاء غبار، الارض ركام، الصوت هدير الجرافات والرائحة تلوّث ينبعث من كل مكان ويقتحم الرئتين حتى الملء من دون استئذان... أما الناس فكائنات تتفقد ما تبقى من الأرجاء. ورغم ذلك، فهناك أجواء فن ونضالات شابة تسعى لانتزاع الفرح وانتشال الامل من بين الدمار، تمثلت في تظاهرة فنية في الضاحية الجنوبية لبيروت التي تعرّضت لاكثر من 30 يوما للقصف الاسرائيلي المركز. انه «ميلاد من تحت الركام»، دعا اليه اللقاء التشكيلي العالمي ولبّاه جمع من متخرجي الجامعات والمعاهد الفنية واساتذتها، فضلا عن عدد من الهواة. قال رئيس اللقاء سعد شيبان لـ«الشرق الاوسط»: «هذا النشاط الاول لنا بعد سنة بائسة. نريد النهوض من جديد وسننتقي من الاعمال الافضل لعرضها في مقر مجلس النواب، وسنجول بها لبيعها والتبرع بالعائدات لمصلحة احدى الجمعيات» .

انهم شباب اعتادوا المشاركة في نشاطات جامعية وتلبية دعوات لمعارض تقام في مناطق سياحية يتوافد اليها مئات الزوار والسياح. لكنهم لم يترددوا في حمل ريشاتهم وألوانهم ولوحاتهم البيضاء فنصبوها في ساحة ركامية ليصبّوا عليها مشاعرهم المكتنزة شجونا، ألما، يأسا، حزنا وموتا وليضيفوا اليها أفكارهم المتدافعة غضبا واملا، خيبة وصمودا، هوانا واندفاعا...

الجميع استعدوا لهذا الحدث الذي بدا متنفّسا للزوار والسكان. التنقل بين الركام واستنشاق ما اصبح عليه هواء تلك المنطقة، دعوة لاختبار دهاليز جديدة قاتمة لكنه ايضا، فرصة لعدد من الشباب اللبناني لزيارة ما يسمى «المربع الامني» «التابع لحزب الله» والاطلاع على بقعة من بلادهم لم يفكروا يوما في الدخول اليها: «تمنيت لو كنت اعرف المنطقة في السابق لأعبّر بشكل افضل، لكن رغم ذلك شعرت بأن قلبي ميت فقد فوجئت بحجم الدمار»، يقول محمد منيمنة لـ«الشرق الاوسط» وهو يرسم لوحة ارادها سوريالية، ليتعمّق في رسم الاسى، وباهتة الالوان لتنقل ملامح الواقع المرير حيث غيّبت القذائف الحياة وقضت على الامل. رسم الانسان في تخبّطه بين الصمود والضعف. فهو ينتصب ممزق الثياب مغمض العينين يسترجع ماضيه، لكن الامل بدا خجولا فلم يتعدَّ نفحة هواء تركت آثارها على الخصلات المتطايرة.

والى جانب منيمنة تبرز لوحة مشاغبة، لم ينهها بعد سامي يحيى. وكأنها بتلك الالوان النابضة بخيوط الشمس نجحت في الخروج من مدار الغمّ ربما لتعاند كل ذاك الحزن الذي يلف الأجواء بقباحته. تنتصب هناك تنادي المارة، تصرخ، ترقص كمن ثار على كل ما حوله دفعة واحدة، وعند الاقتراب منها تهمس في الاذن ما يدفع الى الابتسام. «أتيت محمّلا بأفكار كثيرة، فقد تابعت ما جرى عبر شاشات التلفزة... هنا حيث اقف كان منزل صديقي والآن لا اعرف عنه شيئا. اريد اضفاء دفء على هذا المكان البارد». يستعين داني جدعون بالفحم. أوليس هذا لون المبنى في الجهة المقابلة أو ما تبقى منه؟ «أكتفي برسم هذه الساحة التي نقف فيها جميعنا». وهنا تنشغل منى صايغ في مسح آثار الغبار وفتات الالوان الترابية عن لوحتها التي تحتضن جثة طفل رضيع ووجه أم غابت هي ايضا، لكنها الوحيدة التي عادت من الموت لتسأل عن حال من لم يسأل عنهم احد. وفي تلك الزاوية تنبض زرقة سماوية لخلفية لوحة تعلوها سنبلة قمح وحمامة السلام وكأنها قطعة أحجية تشع في مجموعة متداخلة من قطع الغضب والمرارة والشجون. رسمتها الروسية غالينا ايدي التي تقطن في الضاحية منذ ثلاثة اعوام. أرادت تخطي عتبات الاسى وتحوّل وجهة الانظار الى «الحياة والفرح»، فهذا هو الدواء الوحيد للعبور الى ضفاف الامل والنهوض من جديد... الجميع منهمكون في رسم لوحات بعضها ذات خلفيات سوداء تحمل علامات حزب الله أو صور شهداء ومقاومين وبعضها يصوّر الالم وافواها تصرخ من شدة المعاناة... فهل ينجحون في اعادة النبض الى تلك الاحياء ورسم ابتسامات وإن حلّت للحظات على عجل؟