موعد أطفال لبنان مع «أعراض ما بعد الصدمة» بعد عامين

30 في المائة منهم يعانون من القدرة على النوم بعد كل مشاهد الدم والدمار والركام

TT

«شو ذنب الطفولة بحرب الكبار؟»، سؤال طرحته الفنانة فيروز في إحدى أغانيها، ولا يزال يعكس حالة أطفال لبنان نتيجة حرب 12 يوليو(تموز) وما رافقها من قتل وتشرد وذعر وقلق... ذنبهم بالتأكيد أنهم ولدوا في بلد عرضة في أي وقت للوقوع فريسة عدوان مدمر ليلقوا حتفهم أو ليشاهدوا المجازر بأعينهم ويعيشوا آلام الموت وهم على قيد الحياة.

فقد كان لوقع الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان أثر الصدمة التي يصعب احتواؤها، وسوف تظهر تداعياتها في مراحل لاحقة، خصوصا على التكوين النفسي للأطفال. ومن المحير ان هذه الجرعات الزائدة من أخبار الموت اليومي يتلقفها المشاهد بأسى ومرارة أكثر مما يفعل أطفال عانوها بأنفسهم. فتصف الطفلة اللبنانية آية الزين، 10 سنوات، التي نجت من مجزرة ارتكبتها إسرائيل في بداية حربها الأخيرة على لبنان في قرية بافليه الجنوبية، لـ«الشرق الأوسط» ببرود ما رأته: «رِجل مبتورة حسبتها بقايا من لعبتي، ويد ورأس عمي منير الذي لم نستطع إيجاد جثته، وصديقتي فاطمة قضت ايضا. أما ابنة عمي ولاء فسقطت جثتها في الوادي». والمحزن أن آية لم تكن حالة استثنائية لأن جميع من نجوا من أصدقائها أبدوا البرود نفسه. أما سارة، إحدى الامهات، فقالت وإلى جانبها طفلتها جوليا التي ولدت خلال الحرب «لست حزينة لأنها ولدت في الحرب. الأفضل لها أن تعتاد على هذه الأوضاع منذ البداية».

والملاحظ أن الراشدين يتهربون من تفسير ما يجري للأطفال، وإذا فعلوا تكون ردودهم مقتضبة أو غير مقنعة، فيما لا يتوانون عن إطلاق تعليقاتهم على المشاهد والريبورتاجات التي تبثها شاشات التلفزة بغزارة لتحقيق السبق الإعلامي و«التغطية الشاملة».

ويوضح الاختصاصي في علم النفس الدكتور سامي ريشا لـ«الشرق الأوسط» أن «رؤية كل هذا الدمار والركام وسماع أخبار الموت بشكل مكثف خففا وطأة الحرب لأن فظائعها أضحت أمورا تُرتكب يوميا». وقال «من المؤسف ان محطات التلفزة لم تتجاوب معنا حين طلبنا منها وضع عبارة. هذه الصور يجب الا يشاهدها الاطفال أسفل الشاشة عند عرض مشاهد حساسة من الحرب». هذه المعاناة خلفت لدى صغار لبنان صورا لا تنسى، ترسخت في ذاكرتهم وستؤثر بالتأكيد على صحتهم النفسية، فردود الفعل الفورية عند سماع دوي القذائف ورؤية مشاهد مؤلمة على شاشات التلفزة، تمثلت بالبكاء أو الصراخ والأرق الشديد وامتناع عن تناول الطعام وتعلق شديد بأفراد العائلة... ولكن التأثير الأبعد سيظهر على المديين القصير والبعيد بأشكال متعددة ومتفاوتة بين طفل وآخر. فهناك أعراض ما بعد الصدمة التي تصيب الأطفال بشكل كبير وتظهر بعد نحو عامين على الصدمة. حينذاك يتذكر المريض ما حصل ويستعيد المشاهد الأليمة وكل ما تعرض له من مآس وغالبا ما تترافق هذه الأعراض مع الكوابيس. وللتعامل مع تلك الأعراض فهناك علاجات فردية وأخرى جماعية وثالثة اجتماعية تعلم المريض العودة الى نمط حياته الطبيعي. و يضيف سامي ريشا «الأفضل ان يخضع المريض لهذه العلاجات الثلاثة في الوقت نفسه ولكن في لبنان العلاجات الجماعية ليست رائجة لأن ثقافتنا لا تسمح بأن يتشارك من يعانون المشكلة نفسها همومهم ويتحدثون عنها علنا». «الأطفال اللبنانيون يواجهون مشكلات صحية ونفسية خطيرة في المرحلة التي تلت الحرب، لا سيما أنهم شكلوا ثلث القتلى والجرحى». هذا ما أشارت اليه جمعية «انترناشيونال ميديكال كوربس» الأميركية التي تتخذ من كاليفورنيا مقرا لها. وقد لاحظ أطباء هذه الجمعية تغيرات سلوكية دقيقة عند الأطفال الذين يعيشون في مناطق الصراع، حيث أصبحوا أكثر عصبية ويتكلمون لغة الكبار بعدما دخلت على مفرداتهم ألفاظ جديدة مثل القصف والقذائف والطائرات، كما ازدادت معدلات الإصابة باضطرابات النوم.

وقد أظهر الاختبار النفسي الذي خضع له 500 طفل لبناني أجراه المعهد اللبناني لتنمية الأبحاث بالتعاون مع صندوق الطفولة التابع للأمم المتحدة ووزارة التعليم اللبنانية، أن 30 في المائة من هؤلاء الأطفال لا يزالون يعانون عدم القدرة على النوم و13.8 في المائة منهم يعانون الاكتئاب.

ولكن المتخصصة في علم النفس ميسا الحسيني، التي عملت مع الأطفال النازحين خلال الحرب، تقول: «يتعامل هؤلاء مع الوضع بشكل جيد وأفضل بكثير مما كنا نتوقع والقلق الذي ظهر على الأطفال من خلال رسوماتهم كان طبيعيا ولم يكن يعكس خطورة في وضعهم النفسي خاصة في المرحلة الأولى».

وتضيف «أن معالم الصدمة ظهرت على القليل منهم، هذا ما عكسه رفضهم المشاركة في النشاطات الترفيهية، أو البكاء والصراخ والعنف الذي بدا في سلوكهم والتصرف بعصبية مفرطة». ولأن نتائج الحرب تختلف من مجتمع الى آخر ولا يمكن تطبيق النظريات نفسها في كل المناطق، تشير الاختصاصية علا عطايا الى ضرورة اكتشاف حالات الأطفال بعد الحرب ليبنى عليها خطط عمل تلائمها للوصول الى نتائج مرضية.

وأكثر هذه الحالات تمثلت باستخدام الأطفال لمصطلحات الحرب والتداول بأحاديث المستجدات الأمنية التي لا تمت الى عالم الطفولة بصلة والخوف على أفراد العائلة والقلق... لذا ارتكز العمل على مساعدتهم عبر النشاطات الترفيهية لتخطي هذه المشكلة والتخلص من هذه الحالات التي تشدد عطايا على أنها لن تكون خطيرة اذا تم احتواؤها قبل فوات الأوان. وعن اعتقاد البعض بإمكانية سقوط قيمة الموت في تفكير الأطفال بعد اعتيادهم على هذه المشاهد، لا تنفي عطايا خطورتها وتأثيرها السلبي على الأطفال وتؤكد أن احتمال الوصول الى هذه المرحلة ضئيل جدا، لا سيما مع التواصل المباشر معهم وتوعيتهم.

تؤكد عطايا أهمية عدم فصل مرحلة الحرب التي مر بها الأطفال عن المستقبل لدرء المشكلات التربوية التي قد تتركها آثار الحرب على التلاميذ خلال السنة الدراسية و التي قد تؤدي الى تدن في مستوى التركيز وفي العلامات. ولعلاج ذلك تقترح تخصيص ساعة أسبوعيا لتقديم الدعم النفسي الاجتماعي للأطفال على أيدي متخصصين أو من خلال نشاطات مسرحية وترفيهية تساعد الأطفال على التعبير عما في دواخلهم. كما يفترض اخضاع المدرسين والأهل لدورات تمكنهم من التعامل مع الأطفال وايجاد بيئة مشجعة تخولهم دعم الأطفال وتفهمهم لتجاوز المرحلة الدقيقة.