لوحات «حزينة» تعيد النبض الى بيروت

الفنانة التشكيلية اللبنانية أني كوردجيان في المركز الثقافي الفرنسي

TT

الدعوة لحضور معرض تشكيلي في بيروت أضحت مميزة، لا بل منتظرة بعد الشلل الذي اصاب البلاد منذ حرب يوليو (تموز) الماضي. فمذاك الحين أفرغت جداول التقاويم من مواعيدها ولم يوقظها بعد صمت القذائف الاسرائيلية، غير ان للانبعاث يوما لا بد منه.

في مركز البعثة الثقافية للسفارة الفرنسية، تعرض اني كوردجيان 38 لوحة متفاوتة المقاسات، متعددة التقنيات انما متناغمة الاجواء. فهناك لوحات بالكاد تلامس الثلاثين سنتيمترا وأخرى تتجاوز بارتفاعها المتر وفي بعضها اختارت الاكريليك والباستيل، فيما فضلت في البعض الآخر الالوان الزيتية أو الحبر. ظاهريا، اقتصر التنويع على المواد المستخدمة ذلك ان كوردجيان اختارت لها الوان حازمة متقشفة وغالبا قاتمة، لانها ارادت الابتعاد عن المجاملة وكل ما يراوغ أو يستدرج العين ببهرج خداع فاستغنت عن الالوان الزاهية. وإذ بها توجد لنفسها خطا بديلا نسجته بعناية، ربما لتثبت ان الاعجاب لا يقتصر على الجمال بمشهدياته المتناسقة، أو بألوانه المبهجة أو اشكاله المتمايلة اغراءً. وربما لذلك ايضا لم تقترب من أبواب القلب فسلكت طريقا آخر، اجتازت فيه العين ومنها عبرت الى العقل حيث استقرت وأيقظت تدريجيا حقائب الذاكرة المُحكمة الاقفال بحواجز الزمن وأغلاله.

واللافت ان كوردجيان لم تشأ وضع عناوين للوحاتها لسببين: «الاول الكسل، والثاني لأني فضلتُ ان اترك حرية التفسير للمشاهد وعدم تقييده بمعان ربما لم يرها»، كما قالت لـ«الشرق الاوسط». لدى دخول القاعة تطالع الزائر وجوه ليست كأي وجوه، فملامحها بدت ممزوجة غامضة متقاربة العينين حتى التلامس، مفتوحة الافواه ليس دهشة انما ضعفا وكأنها ثغرات تستقبل كل من يزورها أو يتسكع قربها... انها وجوه مستترة الهوية ولكن الاكيد ان اليأس قد خيّم عليها وداسها الاحباط فتحوّلت الخطوط السوداء علامات القربى في ما بينها. فهنا فتاة صغيرة يبدو ان حزنها مصدره خضوعها لسلطة ما متمثلة بشد جدائلها بصرامة لا تقبل جدلا. وثمة رجل متروك تتناتشه الوحدة والانعزال، وآخر يئنُ يعبسُ يغضب... كلها وجوه مطبوعة بعلامات الاسى وتواقيعه. والى جانب هذه المجموعة خصصت كوردجيان اعمالا للاضاءة على لحظة الولادة التي تشكل لحظة الانفصال والعبور وكأنها لحظة تتكرر في الحياة. فهذا الرجل رأسه عالق في ما يشبه الدلو يحاول الخروج منه فيما يريد البقاء في عالمه ذاك. عالم يضيق به. وآخر متعلق بدلو وكأنه متعلق بأشياء حتى ادمانها، يحاول يائسا التخلص منها. انها لوحة تمهد للوحات فأتى المعرض سلسلة مشاهد منفتحة على بعضها وكأن الزائر يطلع على أجزاء من فكرة واحدة انما من زوايا متعددة. زوايا خالية من الثرثرة والسرد، حتى ان المكان والزمان انتفيا في بعض الاعمال للدلالة على غياب المرجعية أو السند.