قصر الأمير المملوكي طاز.. شاهد من شواهد العمارة الإسلامية بالقاهرة

في مدينة الألف مئذنة

TT

على عتبات القاهرة التاريخية الإسلامية، تقف تطرق بيديك محاولا الاستئذان، ليفتح لك التاريخ أبوابه ويسمح لك بالتجول في طرقاته لتذوب المسافات بين الخيال والواقع وتنصهر القرون لتتحول إلي لحظة سكون أمام مدينة الألف مئذنة. وخلال تغلغلك في قلب القاهرة الإسلامية وبالتحديد في شارع السيوفية سواء كان هذا الدخول من ناحية السيدة زينب أو من جهة القلعة يجب أن تعود الى أدوات ذلك العصر ومفرداته لتفهم ما تركه أهله من اثار بلغت مستوى الاعجاز الجمالي الى الحد الذي خلدت فيه أسماء من تركوها. ويقف قصر الأمير طاز كمثال على ذلك الابداع وذكرى لهذا الامير الذي كاد أن يكون واحدا من آلاف الأمراء المغمورين الذين ابتلعهم بئر النسيان لولا أنه ترك خلفه قصر يعد أية من ايات الجمال في العمارة السلامية القديمة الشامخة. حيث بناه في سنة 753هـ 1350 ميلادية وافتتحه السلطان بنفسه تقديرا لمكانة صاحبه الأمير سيف الدين طاز الذي تصفه كتب التاريخ بأنه كان «حسن الشكل طويل القامة بطلا شجاعا محبا للعلماء كثير الخيرات على الهمة قوي العزم وافر التجمل ظاهر الحشمة»، ورغم كل هذه الصفات الطيبة إلا أن الأمير طاز لم يخرج عن إطار الشخصية المملوكية التقليدية فقد كان متقلبا ومتمردا وذا نزعة تآمرية فبعد أن ساعده السلاطين المتعاقبون على تولي العديد من المناصب الهامة التي كان آخرها إمارة حلب إلا أنه حاول الاستقلال بولايته الجديدة ودخل في صراع عسكري مع أتباع السلطان الذين هزموه وأرسلوه الي الإسكندرية حيث تم سجنه لفترة حتي أفرج عنه فتنقل شريدا أعمى بين القدس ودمشق، ولم يعش بقصره الذي بناه في قلب القاهرة سوي ثلاث سنوات وبضعة أشهر قبل أن يدخل في الحروب والصراعات. ومثلما شهد القصر العديد من الأحداث الهامة أثناء حياة صاحبه فقد شهد أيضا أحداثا أهم في العصور التالية ومنها معركة حربية هائلة وكاملة دارت أحداثها داخل القصر وحوله سنة 1489 ميلادية بين المماليك السلطانية ومماليك الأمير الكبير «جار قطلوا» وهي المعركة التي بدأت بمجرد شجار عادي بين مملوكين صغيرين فتعصب لكل مملوك عدد كبير من الجنود والقادة وتحول الشجار البسيط الى موقعة حربية خشي معها الناس على أنفسهم فأغلقوا المتاجر وتوقفت الحياة في القاهرة بشكل كامل ولم تعد إلى طبيعتها سوى بعد أن فشل المماليك السلطانية في اقتحام القصر على مماليك «جار قطلوا» بالرغم من استعمالهم لكافة أنواع الاسلحة المستعملة في المعارك الكبيرة مما يبرهن على متانة القصر والحالة الممتازة التي كان عليها، كما شهد القصر استضافة الباشوات المعزولين عن حكم مصر أثناء الخلافة العثمانية قبل قدوم الحملة الفرنسية ومن أشهر هؤلاء الولاة الذين استضافهم أو سجنهم القصر الوزير خليل ولي باشا. وفي عصر محمد علي تم استخدام القصر كجزء من مدرسة حربية ضمن الخطة التي تبناها محمد علي باشا لإحياء أمجاد مصر العسكرية وإعادة تكوين جيش نظامي خاص بها وسرعان ما دخل القصر في مرحلة الإهمال المطلق لدرجة تحويله الى مدرسة .

ومن الطريف أنه حتى بعد إنشاء لجنة حفظ الآثار العربية وعلى الرغم من جهودها للحفاظ على التراث العربي والإسلامي إلا أن مجموع ما تم إنفاقه على حفظ وترميم قصر الأمير طاز طوال نصف قرن من 1891 وحتى 1940 لم يزد على مبلغ 671 مليما ولنا أن نتخيل حالة قصر بمثل هذا العمر الطويل وقد هاجمه سوء الاستخدام والإهمال. ففي الربع الأخير من القرن التاسع عشر وعندما بلغ قصر الأمير طاز من العمر خمسمائة عام رأت الحكومة الخديوية أن تحيل القصر إلى الاستيداع وقررت تحويله إلى مدرسة للبنات بإيعاز من علي باشا مبارك أحد رواد التنوير حينذاك ولكن لم تمض سوى عشرات قليلة من السنين إلا وأخلت وزارة التربية والتعليم القصر ليس من أجل ترميمه والحفاظ عليه بعد أن ظهرت عليه آثار الشيخوخة بشكل واضح ولكنها أخلته لتحويله إلى مخزن. ولأن القصر كبير ومتسع ويقع في قلب القاهرة فقد كان مؤهلا من وجهة نظر الوزارة أن يكون المخزن الرئيسي لمئات الألوف من الكتب الدراسية وعشرات العربات التي تم تكهينها ومئات الأطنان من الخردة بمختلف أنواعها. ولم يمض وقت طويل حتى تحول القصر الى مقبرة للحيوانات النافقة. وبعد أن عصفت رياح الزلزال الشهير بالكثير من أركانه وأعمدته في أكتوبر (تشرين الاول) 1992 انهار جانب كبير من الجدار الخلفي للقصر والمطل على حارة ضيقة بها عشرات البيوت المتهالكة يسكنها مئات آلاف المواطنين أصبحت حياتهم جميعا مهددة بالخطر. ولانقاذ القصر من الانهيار بالكامل شكلت وزارة الثقافة لجنة من الخبراء المتخصصين في الترميم الاسلامي وعلى رأسهم أيمن عبد المنعم مدير مشروع القاهرة التاريخية ومجموعة من خبراء الوزارة. وبدأت عملية انقاذ القصر لتعود الحياة إلى القصر الذي تم ترميمه بكفاءة لا يمكن وصفها. وكانت المفاجأة الأكبر في الاكتشافات الأثرية المهمة التي واكبت ذلك وأدت إلى إزاحة الستار عن المزيد من خبايا القصر ومنها اكتشاف أقدم سبيل للمياه وحمام في هذا العصر وحوض ضخم لأسماك الزينة تم استخدامه من أجل اضفاء لمسة جمالية وان كان هناك رأي بأن هذا الحوض ربما تم استخدامه كحمام سباحة لجواري القصر.

الخطة المبدئية لانقاذ القصر اعتمدت على شقين متتالين الأول من خلال عمل دعامات لايقاف أي انهيار جديد وازالة أكوام الردم الموجودة أعلى السقف والتي تمثل حملا ثقيلا قد يساعد على انهيار القصر بالاضافة الى بناء حوائط من الطوب حول الجدار لتثبيته ومنعه من السقوط. أما الشق الثاني فتمثل في تقسيم القصر الى أجزاء ثم فك كل جزء على حدة بحرص شديد. وقد صاحب هذه المرحلة عملية مراقبة مكثفة خوفا من حدوث انهيار مفاجئ يهدد حياة سكان المنطقة والعاملين في المشروع وعندما تمت العملية بنجاح واكتشف فريق العمل أن الميل قد تراجع بفعل الدعامات وأن حركة المباني بشكل عام قد توقفت تم تعديل خطة فك القصر بأكمله وتم تعديلها ليقتصر هذا الفك على الأجزاء المتهالكة فقط.

مساحة القصر الحالية تبلغ أكثر من ثمانية آلاف متر مربع وهو عبارة عن فناء كبير خصص كحديقة تتوزع حولها من الجهات الأربع مباني القصر الرئيسية والفرعية والتي لم يتبق منها سوى الواجهتين الرئيسية المطلة على شارع السيوفية والخلفية المطلة على حارة الشيخ خليل وهي التي بدأ منها الانهيار والمقعد الذي تم تجديده في عهد علي أغا دار السعادة صاحب السبيل والكتاب الملحقين بالقصر وجزء صغير من قاعات الحرملك فضلا عن القاعات المستحدثة التي استخدمت كمخازن أو قاعات دراسية في عصور لاحقة.