بحث محموم عن السعادة و«جرأة عدوانية» في التعبير الفني

معرض التشكيلي المغربي هبولي بطنجة

TT

رغم المراحل المتعددة الكثيرة التي مر بها التشكيلي المغربي هبولي في مسيرة فنية امتدت على أزيد من اربعة عقود، الا ان ما ميزه هو الإصرار على مواصلة البحث والتجريب وعدم الاكتفاء بالمشي على نفس الدروب المطروقة. وهو بحث قام به باستمرار انطلاقا من المحيط المباشر، من ملاحظة المجتمع والإنصات لتحولات المدينة والأشخاص والألوان في واقع عرف تطورات متسارعة وغزته مظاهر التمدن الفوضوي الى درجة جعلت تدفق الضوء الذي كان سائدا عند الفنانين المغاربة المنتمين الى مدرستي تطوان والدار البيضاء، يتراجع لصالح ألوان فوضوية كالحة متخلية عن بهائها لدى العديدين.

ولعل هذه الألوان المذعورة المتراجعة الى مناطق الظل من شخصية الفرد هي التي تشكل موضوع الحلقة الجديدة من اعمال هبولي المعروضة حاليا في رواق «دولاكروا» بطنجة المغربية، المنتصبة كنقيض فني حقيقي لأضواء وألوان مدينة البوغاز، مكان العرض، وحميمية ودفء فضاء مدينة أزمور التي يشتغل هبولي انطلاقا منها منذ فترة ليست بالقصيرة. فلماذا هذه العلاقة الإشكالية الاحتجاجية على تحولات الأماكن والأشخاص؟ ولماذا يتركز عمل هبولي اليوم على البورتريه، مهملا الفضاء، أو جاعلا من الوجوه البشرية منطقة لامتزاج وتدافع وتكثّف الأمكنة المتلاشية والعواطف الحزينة التي تذكر بعض منها بأجواء لوحة «الصرخة» لادفارد مونك، مع فرق ان كائنات هبولي لا تملك فما ولا قدرة على الكلام؟

جوابا عن هذه التساؤلات يقول هبولي معلقا حول معرضه الذي يحمل عنوان (ملامح): «أعمالي الأخيرة هي نتيجة ملاحظتي للمجتمع المغربي في العشر سنوات الأخيرة. لقد تأملت طوال هذه السنوات وجوه الأشخاص في مجتمعنا فوجدت إنها لم تعد كما كانت في الماضي مضيئة وشفافة، بل صارت تعكس حالة من العزلة والمرض العميق. ولا يمكن علاج هذا المرض الا بواسطة الفن، رغم ان الفن المغربي لا يستطيع ان يواكب لحد الآن التحولات والتطورات التي تشهدها البلاد. لذا قررت ان أنجز مجموعة من اللوحات في اطار عمل ميداني يلاحظ الواقع بنوع من الجرأة العدوانية والألوان الغامقة الحزينة. إن عملي هذا دعوة بل صرخة تستحث فنانينا ومثقفينا نحو مساعدة المجتمع على الوصول الى السعادة. ورسالتي الفنية هي الالتزام بالسعادة».

لكن، واذا كانت السعادة هي الهدف المعلن من طرف هبولي في اعماله، يبقى السؤال الذي يستفز المشاهد حتما هو إمكانية الوصول الى السعادة بطريقة «الصدمة التشكيلية» التي يمارسها الفنان في معرضه الأخير الذي تتوزع أعماله على مجموعة من اللوحات «البورتريهات التي تمزج الغرائبي بالواقعي، وتنجّر احيانا الى نوع من المزج بين الملامح الغائمة والمتخيل القادم من عالم الحلم المظلم العميق و الغامض. اننا نجد انفسنا احيانا امام لوحات تشكل صورة حقيقية من العزلة الممزوجة بالعجز. فكل شخصية تنتصب على حدة ولا تتقاسم فضاء لوحتها مع أي مكون تشخيصي آخر، بل تستدخل العالم في ملامحها التي لا تتضمن الفم (اداة التعبير)، كما لا يتاح لعيونها ان تكون واضحة معبّرة بلغة بديلة، بل هي عيون مغلقة «منمحية» كأنها نوافذ لا تفضي الا الى حزن الروح. كما ان الفنان يعمد احيانا الى تضخيم قسمات او اجزاء معينة من بعض الوجوه ليحيل المشاهد على كائنات من نوع اسطوري، وليحوّل الشخصيات الى وحوش، في اطار تقليعات تكاد تخرج العمل من الإطار الضيق للبورتريه. انها رؤية تحاول ان تصل الى العمق، الى المناطق المظلمة من اللاشعور، الى تحولات «الوجوه المريضة و المنعزلة» التي يرصدها ويتحدث عنها هبولي في أعماله الأخيرة، مبتعدا هذه المرة عن الضوء المغربي لصالح رصد عزلة الفرد، وعن تسجيل حميمية المجتمع الشرقي وبهجته القديمة نحو رصد مظاهر القلق واضمحلال الفرح نتيجة لضغوط الحياة وللتأثر بأمراض المجتمعات المعاصرة التي يقلّص فيها ايقاع الحياة السريع اللاهث فرص الهدوء والسكينة والصفاء الروحي.