الباحثة سلمى مرشاق سليم في هدية عرفان إلى كاتب سنوات الصبا

TT

جميل هو الوفاء ويزداد جماله إذا جاء في سياق ثقافي، هذا ما شعرت به وأنا اقلّب صفحات الكتاب الصادر عن «دار الجديد» في بيروت، حديثاً، عن ابراهيم المصري، رائد ما يسمى بالقصة النفسية، للباحثة سلمى مرشاق سليم، وهو كتاب استدعى جهداً تنقيبياً في الصحف القديمة وأرفف المكتبات المغبرة لكي يقدم لعشاق الأدب وللدارسين ولجيل لم يسمع بهذا الكاتب الرائد ما يصلح أن يكون مدخلاً بيبليوغرافياً شيقاً يستمد جاذبيته من حب المؤلفة لموضوع بحثها.

وابراهيم المصري ولد في القاهرة، فاتح القرن المنصرم، لأب تعود أصوله الى بلدة دير القمر في لبنان، وكان أبوه، سليمان الحداد، نساخ عقود في المحكمة المختلطة في مصر، ولعل لهذا النسب صلة باهتمام سلمى مرشاق به، فهي أيضاً من مواليد القاهرة لاسرة من «شوام مصر»، لبنانية بالاقامة والزواج والامومة، مجازة في الصحافة من الجامعة الأميركية في القاهرة ونالت الماجستير من الجامعة الأميركية في بيروت، عام 1973، عن أطروحة تدور حول هجرة الشوام الى مصر ومساهمتهم في النهضة.

وتصارح المؤلفة قارئها بأن ما حدا بها الى بذل الوقت والجهد في احصاء كتابات المصري والتعريف به، هو «عرفان، ولو متأخر، بما كان لتلك الكتابات من تأثير عليّ في عهد الصبا، تأثير لم تزدني الأيام وتجارب العمر إلا إدراكاً له». فمن خلال قراءاتها المتنوعة في صباها، احتل اسم إبراهيم المصري مساحة في ذهنيتها ونفسها لأنه كان يكتب عن المرأة ويحلل نفسيتها باسلوب تصفه بأنه «لمس شغاف قلب مراهقة تخطو نحو النضج والاستقلالية في شخصيتها، ومع أن كتاباته ونصائحه لم تكن تختلف عما تبديه الوالدة، إلا أن اليافع يأنس الى الغريب المطبوع في مجلة أو كتاب أكثر من أنسه بما يصدر عن أقرب الناس إليه».

 وتضيف في تقديمها للكتاب أن الفضل في حصولها على معظم كتب المصري يعود الى ثلاثة: أولهم أستاذها وصديقها الأديب وديع فلسطين الذي أعارها الكتب المهداة اليه من المؤلف كما أمدها، على مدى سنين، بكل ما كانت تنشره الصحف المصرية عنه. وثانيهم شقيقها الذي جمع لها ما توفر من الكتب عن سور الأزبكية ودار الهلال وما استقاه من معلومات من أسرة الكاتب. والثالثة ابنة الأخ التي زودتها بما هو متوفر في مكتبة الجامعة الأميركية في القاهرة. أما النبع الكبير فهو مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت الغنية بمجموعاتها من الصحف والمجلات والكتب.

جاء الكتاب في أربعة فصول، الأول لسيرة ابراهيم المصري الذي اختار هذا اللقب المستعار لسبب تميل الباحثة الى تفسيره بالرغبة في الهروب من واقعه الاجتماعي والنفسي. وهي كرست الفصل الثاني لمؤلفاته من حقبة الثلاثينات حتى وفاته في خريف 1979، والفصل الثالث لاسهاماته الصحافية في مجلته «الأدب الحي» و«السفور» و«الهلال» و«الأديب» وغيرها. أما الفصل الأخير فأورد شهادات فيه ومقالات أتت على ذكره، ومنه رسالة بعث بها الى صديقه وديع فلسطين جاء فيها: «بعد تحيتك وتقبيلك ارسل اليك القصة وعسى أن تعجبك، ورجائي ألا تغضب لأنها استغرقت عدداً كبيراً من الورق، فالوزن عليّ كما قلت لك، وعليك التسامح والمسامح كريم».   ولعل من المفيد، في صدد وصف هذا الجهد، إيراد حكمة بديع الزمان الهمذاني التي استهلت بها الباحثة كتابها الذي أمضت سنوات في تجميع شتاته: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا كان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر».