أبو الكاريكاتير وليام هوغارث يعود للندن بعد 250 سنة من سخريته منها 

رسومه صبغت المشاعر الوطنية بألوان الحياة اليومية

TT

ضجة الشباب في الشوارع الضيقة تحت تأثير الكحول، وفتيات سعين للخروج عن التقاليد، وغريب لقي مصرعه بعد انعطافه في زقاق اشرار محرومين، كل هذه اللقطات ترسم صورة للندن من نشرات الاخبار والصحافة  في مارس 2007.  لكننا بصدد صورة لندن في القرن 18 بريشة وليام هوغارث (1697 ـ 1764) فنان، ومصمم ورسام كاريكاتير، ومؤلف مقالات وكتاب، اهمها «تحليل الجمال» (1753). ديناميكية الانسان لمدينة في طريقها لتصبح من اعظم مدن العالم، بعد سطوع فجر الثورة الصناعية موفرة لطبقتها الحاكمة التكنولوجيا والثروة التي جعلت شمس الامبراطورية لا تغيب عنها لقرنين.

لحسن الحظ، يمكن لزائر لندن فحص الصورة في معرض هوغارث، رسام السخرية، وأبو رسامي الكاريكاتير، وربما الفنان الوحيد في تاريخ الامبراطورية الذي تتصارع على تركته الطبقات الاجتماعية. وهو امر نادر الحدوث في بريطانيا بمجتمعها الطبقي، من قمة كاناري وورف (اعلى مبنى في العاصمة) الى قاع اعمق منجم في امارة ويلز.

ابدع هوغارث في الكاريكاتير الساخر من الساسة ووجهاء المجتمع. لعب في لندن دورا مماثلا لـ«الحكواتي» في مقاهي الاحياء الشعبية والريف المصري قبل اختراع الراديو، بتفصيله الحكايات الشعبية، كسيرة ابو زيد الهلالي، على مقاس السياسة المعاصرة. الفارق ان هوغارث لم يكن «حكواتي كلام» في مقهى واحد بل «حكواتي صور» واقعية او كاريكاتيرية، في مسلسلات، مقابلها الحديث في التمثيليات الخفيفة Soap Opera وأبطاله اشخاص عاديون.

نسخت المطابع لدكاكين الكتب الصغيرة المنتشرة وقتها في لندن، صور هوغارث، ليس فقط لبيعها للمستشفيات والمجالس المحلية ومجلس العموم، بل ايضا لرواد الاماكن الشعبية كالحانات والمقاهي المنتشرة.

معرض أعمال هوغارث في لندن يثير المقارنة بالتلفزيون كفن اتصال للقرن الـ 21، فإذا دققت في الصور المعروضة تنجذب محدقا بنفس انتباه الحواس المدربة تلفزيونيا في القرن 21.   موهبة هوغارث في السخرية كفن تسلية الناس تسربت الى ريشته موفرة جرعة فنية مركزة للبسطاء من العامة، وذلك رغم جدية ما تناولته من قضايا كتطبيق القانون، او التحايل عليه، وتناقضات العدالة، والسخرية من الثقافة المعاصرة ومن رجال الدين وسيطرة الكنيسة وهي موضوعات جعلته بطل الفقراء الناقمين.

رسومه صبغت ايضا المشاعر الوطنية بألوان الحياة اليومية. لوحته عام 1745 تصور الحرس في مسيرتهم من لندن، شمالا نحو دربي في مقاطعة يوركشير، قلب الثورة الصناعية (بجانب مقاطعتي الميدلاند ولانكشير) لملاقاة الثوار اليعاقبة الاسكوتلنديين تعبر ضمنيا عن جزع حقيقي من سقوط لندن في ايديهم (الثورة اليعقوبية  1688 ـ 1746)  هي انتفاضات في الجزر البريطانية نسبة الى Jacobus  الكلمة اللاتينية للاسم جيمس، وهو جيمس الرابع الاسكوتلندي بغرض اعادته الى العرش، وبعده ذريته من بيت ستيوارت الملكي الاسكوتلندي).

هوغارث نفسه من الفقراء الذين رفعتهم الثورة الصناعية الى الطبقات الوسطى ـ وتجد رسومات وجهائها في  آخر قاعات المعرض ـ والمواطنين العصاميين الذين خلقت جهودهم الثروة وفرص العمل للآخرين، يتجمعون للتباحث في الصفقات و«البيزنيس» وتناول اقداح الشاي وغيرها.

نمو المدينة بنزوح الطبقات الجديدة من الريف الى حياة الحضر صورته ريشة هوغارث بدقة لا تضارعها إلا كلمات مؤرخ انجليزي للعصر بأنه: «الذي تعلمنا فيه كيف نسكن بيوتا مبنية من الطوب وليس الخشب والقش؛ وكيف ننمي الزهور في اصص فخارية؛ وكيف نتناول الوجبات في اطباق الصيني المنقوشة الزرقاء (ويقصد بدلا من الاواني المعدنية والفخارية) وكيف نشرب اقداح الشاي والقهوة والشيكولاتة؛ ونفطر على الخبز «التوست» والمرملاد بينما نقرأ الصحف».

لذا فلوحات هوغارث مثل فيلم تسجيلي لصعود الطبقة الوسطى وبداية الاقتصاد الاستهلاكي بشرائهم اطعمة ومشروبات وأدوات كانت حكرا على الأرستقراطيين في قلاعهم في الريف. فالمدينة، قبل توسعها،  بروائحها العفنة وشوارعها المتسخة، كانت ملتقى خدم الارستقراطيين  للتسوق والتسلية.

الثورة المجيدة 1688Glorious Revolution  قبل مولد هوغارث ضمنت الحرية للمجموعات الصاعدة، فوثقوا مراكزهم في المجتمع بجهودهم التقنية والفكرية والاقتصادية وليس بثروة هبطت عليهم  مصادفة. مجموعة التجار والمستثمرين والمصرفيين ومديري وأصحاب المزارع المتعلمين، وهم الطبقة المتوسطة او القاطرة التي تسحب قافلة المجتمع نحو التقدم والنهوض، طبقة أثبتت في القرون الثلاثة الماضية عجز اي امة حديثة عن التقدم دونها من عصور شبه الاقطاع الى المجتمع الصناعي الحديث.

اختلط هوغارث بالطبقات الوسطى التي بنيت الامبراطورية على اكتافها، فامتلأت رسومه بشخصياتها وحركتهم الديناميكية وعلاقاتهم ببعضهم البعض وبتفاعلهم مع المجتمع. لكن جمْر نقمتهم على الارستقراطية كان لا يزال متوهجا ـ وربما يفسر ادعاء الطبقة المتوسطة لملكية ارث هوغارث ـ  فتمسكوا بفكر الطهارة Puritanism  لأجدادهم الذين خاضوا الحرب الاهلية الإنجليزية الثالثة (1649 ـ 1651) التي انتهت بانتصار البرلمان ضد الإقطاع، ولذا دعموا الويغيين (حزب الويغ Whigs  الذي تحالف مع المحافظين في الحكم من 1678 الى 1681) وصوتوا لهم ضد المحافظين الذين اعتبروهم ممثلين للعهد القديم عندما غضبوا من تأليف وليام بيت الاصغر (1759 ـ 1806) حزب المحافظين الجديد.

أعمال هوغارث ظهرت فيها ملامح معاداة الكاثوليكية، باعتبار ان الحروب ضد فرنسا كانت حروبا انجليكية ضد كاثوليكية متزمتة، منذ تمرد هنري الثامن (1491 ـ 1547) على الفاتيكان وتحويله البلاد من الكاثوليكية الى الانجليكية.

لوحة هوغارث «بوابة كاليه» 1747 تسببت في قبض الفرنسيين عليه اثناء تخطيطها في مرفأهم على المانش الذي زاره في فترة سلام قصيرة بين الجارتين. اللوحة يرحب بها الاشتراكيون، لطبقيتها، والإنجليز البروتستانت لسخريتها من الفرنسيين الكاثوليك. الصورة لخدم يحملون لحم عجل انجليزي مشوياً في حراسة مشددة وعيون الفقراء تجحظ من وجوه نحتها الجوع، بينما يسيل لعاب راهب كاثوليكي فوق اللحم. وفي ركن آخر، يقف اسكوتلندي حزين لجأ الى كاليه بعد هزيمة الانتفاضة اليعقوبية.

المفارقة ان اللاجئين اليوم من انتفاضات مهزومة، افغان، او اكراد، او صوماليون اوالشيشان، ينزوون في اركان ميناء كاليه أملا في التعلق بالقوارب المبحرة شمالا طلبا للجوء في المرافئ الانجليزية.    كان هوغارث مهموما لعدم تقدير معاصريه له في حياته، كفنان جاد حوّل ريشته الى اداة للتحليلين السياسي والاجتماعي، فكانت وخزات موجعة للبرجوازية الصاعدة، والأرستقراطيين، فركز قومه على الجانب الساخر في اعماله كرسام كاريكاتير، او مانح الرسوم الواقعية بعدا كاريكاتيريا، متجاهلين الجدية.

ولو كان هوغارث حيا اليوم وشاهد طوابير زوار معرضه لأدرك مدى تقدير التاريخ لنجاح مسعاه لتأسيس مدرسة انجليزية للرسم ـ وكان الفن الانجليزي تقليديا هو محاكاة للرسامين الايطاليين من عصر النهضة ـ خاصة ان الارستقراطيين الذين سخر منهم هوغارث كانوا يجوبون ايطاليا لشراء لوحات فنانيها بدلا من تشجيع الانتاج المحلي، فكان الفنان الانجليزي افقر من معاصره الايطالي. فهوغارث مؤسس مدرسة اضافت الحركة والإحساس الى المعلومة التاريخية والعاطفة الانسانية.

لوحته الكبيرة عن تقديم الخدم الرضيع موسى الى ابنة فرعون مصر امتلأت بأبعاد درامية لنظرة الخوف في عيني الطفل وقلقه من دخوله، وهو ابن «العبيد»، الى ثراء وأبهة حريم قصر فرعون العظيم. المعرض الحالي لا يعتبر دراسة عميقة لهوغارث وأعماله فحسب، بل دراسة للتطورين الاجتماعي والسياسي لأهم مرحلة في تاريخ انجلترا الحديث: تفجر الثورة الصناعية التي حولتها الى قوة امبراطورية عظمى.

سلسلة لوحاته «زواج على الموضة» وهي ستة رسومات ما بين 1743 و 1745 كاريكاتورية تسخر من مؤسسة الزواج كموضة استثمار؛ بطلها ارستقراطي مفلس هو ايرل (ماركيز او بارون) سكواندرفيلد (وهي كلمة مركبة من كلمتي  Squander + field اي المبذر الذي اضاع المزارع) وقد تحولت شخصية ايرل سكواندرفيلد الى رمز للعنجهية المفلسة المغفلة في مخزون رسامي الكاريكاتير تماما مثل رموز فار السبتية ـ مسؤول عن قطع الكهرباء ـ ورفيعة هانم الضخمة وزوجها السبع افندي الضعيف المهزوم  في الكاريكاتير المصري.

ايرل سكواندرفيلد يحاول إنقاذ الاسرة من الضياع. فيدبر زواج ابنه الوجيه المفلس من ابنة تاجر ثري متواضع الاصل. زواج منفعة تنقذ فيه الطبقة الجديدة، التي يضحي رمزها بسعادة ابنته مقابل حصولها على لقب ارستقراطي «الليدي سكواندرفيلد»؛ بينما تبيع الارستقراطية تاريخها الى الطبقة التي تحتقرها لإنقاذها  من الافلاس. والرسومات تتعمق في السخرية من جشع الطبقتين.

لوحة تبين إخفاق سكرتير ايرل سكواندرفيلد في مهمة شرح تركة الديون الثقيلة للعروسين؛ وفي اخرى تحاول العروس، صبيحة الزفاف، التسلل الى مخدع عشيقها، لكنه في حالة ثماله تعوق قدرته على مبادلتها الحب، بينما تظهر على قفاه قروح مرض الزهري. ثم رسومات مفاجأة العريس الغاضب لعروسه متلبسة بالخيانة، فيقتله العشيق، بينما تنتحر العروس عندما يشنق عشيقها في اسوأ مكان عام في لندن.

 تأثير هوغارث شاهدناه على الشاشة الفضية في تمصير حبكة «زواج على الموضة» في عشرات الافلام المصرية الساخرة في ثلاثينات وأربعينيات القرن الماضي: والأرستقراطي المتعجرف المفلس (يوسف بك وهبي، او جورج ابيض، ثم حسين رياض لعبوا الدور) يزوج ابنته من العصامي الذي تسلل من الريف او الطبقة الفقيرة الى الطبقة المتوسطة كمهندس صاحب مصنع (عادة بطولة حسين صدقي وبعده انور وجدي وعماد حمدي)، وهي إعلاء للقيم التي سادت المجتمع المصري بثورة طلعت حرب الصناعية في العشرينات، والافتخار بالعصامية، والثروة الوطنية المصرية خاصة ان مصدر الثروة مصنع غزل ونسيج القطن المصري. او زواج الارستقراطي من ثرية «عديمة الاصل» لا تصون القيم.

وقد اشار مؤرخو السينما المصرية (التي حولتها استثمارات طلعت حرب باشا الى رابع اكبر صناعة سينما في العالم) الى تأثير هوغارث ولوحاته الفنية بعمق على مخرجي وكتاب السيناريو المصريين ليس فقط في اختيارهم للملابس والديكور والشخصيات، بل وحبكة الفيلم والسخرية الكاريكاتورية من الشخصيات التي تتمسك بالقيم القديمة في مواجهة حيوية القيم الجديدة في العشرينات والثلاثينات؛ وانتقاد خائني العهد من اثرياء الحرب في الاربعينات.

هوغارث نفسه وقع في مفارقات تثير السخرية بعمله كـ«رسام خصوصي» عند الطبقات التي سخرت منها اعماله الاخرى حيث استأجرته الاسر لرسم حياتها اليومية. كما انه تطلع طبقيا وأصبح كبير رسامي البلاط (الملك جورج الثاني 1683 ـ 1760)، بعد ان تزوج جين تورنهيل، عام 1729، ابنة السير جيمس تورنهيل (1675 ـ 1734) كبير رسامي البلاط، في واحدة من التحولات الكاريكاتورية في تاريخه الشخصي؛ فالسير جيمس من الطبقة شبه الارستقراطية ورسام من مدرسة الباروك تخصص في لوحات الفن الايطالي الذي قضى هوغارث حياته مكافحا غزوه لسوق الفن واللوحات البريطاني في محاولته تأسيس مدرسة مستقلة للفن الانجليزي.

نشأة هوغارث المتواضعة، جعلته ايضا يفهم الجانب السيئ في حياة الفقراء، ولم يخجل من السخرية منه. ولد في 16 نوفمبر 1697 لمعلم مدرسة فقير، حاول زيادة دخله بالعمل ككاتب عمومي ينسخ خطابات الاميين، ويتعلم الولد وليام الصنعة  «كصبي» في مطبعة للزنكوغراف والرسم بالحفر، في لندن المليئة بالتناقضات الطبقية. كانت تسليته كمراهق برسم الشخصيات التي يصادفها في الشوارع والحانات، ويضيف اليها الحركة والتعبيرات، مظهرا موهبة مبكرة في السخرية.   اصيب هوغارث بصدمة إثر افلاس ابيه بعد استدانته ليفتح مقهى لمتحدثي اللاتينية، واودع السجن المخصص لمن يتخلف عن دفع الدين (وهو مسرح عدد من شخصيات روايات تشارلز ديكينز 1812 ـ 1870).

وفي عام 1720 اصبح هوغارث فنانا مستقلا عن معلمه السابق، يكسب من تصميم اغلفة تجليد الكتب ويحفر رموز الاسر الغنية على الدروع وأبواب قصورها، وعندما كلفه تاجر لوحات ومعلقات الجدران، عام 1727، بتجهيز تصميم للوحة «عناصر الارض» اضطر لمقاضاته في المحكمة عندما رفض دفع مصاريفه بحجة ان هوغارث فنان زنكوغراف وحفر، وليس فنان تطريز قماش، فكسب القضية في فبراير من العام التالي؛ وبعدها بعام تزوج جين، ليخلف حماه كرسام للبلاط بعد ثلاثة عقود في 1757. ومنذ عشرينات القرن الـ 18 بدأ هوغارث يحقق دخلا محترما من رسومات ولوحات شهيرة كـ«اليانصيب»، و«مشهد من المسرح البريطاني»، و«مجلس العموم» ومشاهد ولوحات اوبرا الشحاذين الشهيرة. نشأة هوغارث، وتصويره للشخصيات اليومية في لوحات مثل «اوقات اليوم الاربعة» لتصور مشاهد مختلفة عبر يوم عمل للحياة في لندن، جعلته يحول الكاريكاتير الى اداة سخرية من الجميع خاصة الطبقات المتواضعة وترديهم الاخلاقي، مما جعله ايضا بطلا فنيا محبوبا عند المحافظين الاخلاقيين.

لوحته الشهيرة «حارة جين»  Gin Lane (1751) صورت الفقراء والطبقات المتواضعة في حالة ثمل شديد لدرجة ان امرأة بلغت بها الثمالة حد وقوع طفلها الرضيع من يدها من حافة الدرج. و«حارة جين» (والجين مشروب كحولي وصل انجلترا من هولندا) هي استكمال للوحة «شارع البيرة» مشروب الانجليز الوطني قبل ان تغزوهم هستيريا ثمالة الجين، وفيها بعد وطني مناهض لغزو ثقافة الهولنديين الاوروبيين البلاد، وربما كانت اللوحة توقعا لجزع المحافظين الانجليز اليوم من حالة شوارع لندن، بعد غزو انواع لا حصر لها من مشروبات جديدة وافدة لم يعرفها المجتمع من قبل.