15 فنانا من مختلف دول العالم يعزفون على الجرانيت مقطوعات للشمس والحرية

ختام سيمبوزيوم أسوان الدولي للنحت

TT

طغى هاجس الحرية ووسائل الإنسان في التعبير عنها والعبور إليها على أعمال الدورة الثانية عشرة لسيمبوزيوم أسوان الدولي في النحت على الجرانيت والذي استمر نحو شهرين في الفترة من 27 يناير إلى 17 مارس الحالي. وينظمه صندوق التنمية الثقافية ويشرف عليه الفنان آدم حنين قومسيير مدير عام السيمبوزيوم. ففي مناخ من الطبيعة البكر تتمتع به أسوان مدينة المحاجر الأولى في العالم، وتحت ضوء الشمس الساطع، تفنن 15 فنانا من مصر ومختلف دول العالم في العزف على خامة الجرانيت الصلبة التي اختاروها مباشرة من المحجر، وترويضها في أشكال نحتية معاصرة تتناغم جميعها في رقصة جماعية خاصة للشمس والحرية.

والطريف في السيمبوزيوم أنه بمثابة ورشة فنية مفتوحة، يعمل فيها الفنانون بجوار بعضهم بعضا، مما يتيح لهم تبادل الأفكار والرؤى حول أعمالهم ومراجعة خبراتهم الخاصة، والنظر فيما يقدمونه من أعمال بمعايير مختلفة تقتضيها ظروف هذه التجربة. ناهيك عن أن هذا الجو يشحذ في كل فنان مشاعر خاصة لكي يقدم عملا نحتيا مميزا يبقى في ذاكرة السيمبوزيوم.

وتعد هذه الدورة متميزة، ولعل من ملامح هذا التميز الاهتمام بالأعمال النحتية الصغيرة، وإبرازها في أنساق جمالية متنوعة، وهو ما تجلى في أعمال المصريين: محمد رضوان، وهاني فيصل. فالأول استخدم كتلا صغيرة من حجر الجرانيت الأسود الداكن، تتعانق مع بعضها رأسيا وأفقيا، واستطاع من خلالها أن يستعيد أجواء النحت الفرعوني في موتيفات ورموز بسيطة وجميلة. وعلى الخامة نفسها قدم هاني فيصل مجموعة من الأعمال الصغيرة منحوتة على شكل أسطواني مضفر لتعطي إحساسا بالدفء وبنور داخلي، ينبع من رشاقة الكتلة والحركة.

وعلى سيمفونية الموت والحياة لعب النحات الألماني فريتز باك منحازا لكتلة من الجرانيت الأسود في أسفلها كتلة مكعبة من الجرانيت الوردي، ويعلو التشكيل مثلث محفور يشبه مركب الشمس عند الفراعنة، وفي تجاويف المثلث تترجرج زخات من الماء يسبح في داخلها ثعبان، كما يقطع زاوية المثلث العليا رمز تشريحي وصفي صغير، عبارة عن رأس الجعران الذي يرمز للحياة الأخرى الأكثر غموضا في التراث المصري القديم. ولجأ فريتز إلى عدة حلول مهمة لإبراز فكرته، وإبراز ثراء الخامة في الوقت نفسه: فقام بتنعيم الأسطح الداخلية للجرانيت الأسود لإظهار حبيباته التي تخفف من حدة السواد، وتوحي في الوقت نفسه بأن ثمة لونا مضادا يميل إلى البياض، ويكتسب حضورا خاصا حين يغمره الضوء. وبديهي أن يشير اللونان الأبيض والأسود هنا إلى جدلية الموت والحياة. كما تشير الخطوط المتعرجة التي حفرها بنسب مختلفة في مكعب الجرانيت الوردي إلى فكرة الحركة والانتقال من عالم إلى آخر.

أيضا في سياق هذه الرؤية يأتي عمل النحاتة الايطالية ماريا كلاوديا فارينا والذي يجسد فكرة العبور إلى الحياة والحرية، بالحفر البارز والغائر، والتلاعب بالنسب والمعايير وزوايا الاتزان والحركة على سطح كتلة ضخمة من الجرانيت الوردي، قسمتها إلى جزءين متساويين، ثم أعادت تركيبهما في سياق فني حالم معجون بأنوثة طافرة. كما استطاعت بكوة من الفراغ أن تجد حلا لفكرة الإيقاع المتناهي بين الكتلتين وأن تمنحهما خفة وثقلا متناغمين، وأن تحول الأسطح المصقولة اللامعة إلى «صياد ضوء»، موطدة في الوقت نفسه علاقة خاصة بين العمل ككل، وبين عناصر الطبيعة المحيطة به من تربة وماء وهواء.

من الأعمال المركبة المهمة في هذه الدورة ما قدمه النحات الايطالي باسكال مارتيني وهو من أجمل أعمال السيمبوزيوم، ويصلح درسا في فنون النحت، وبخاصة فن تشريح الكتلة، واحتوائها ككائن حي، وكذلك في كيفية خلق علاقة حية من داخل الكتلة نفسها بين الفراغ، ومسارات الضوء والظل، كما جعل هذه العلاقة تتشكل وفقا لعناصر الحركة والاتزان، والعلاقات بين الكتل المختلفة،التي يتكون منها العمل، بما يشي بأنها تضمر في تجاويفها زمنا لا متناهيا. ومن سمات التميز لهذا العمل أنه جمع بين جماليات الكتل الصغيرة والكبيرة معا. ولم يلجا الفنان إلى تيمة «التكتيل» ليعطي إحساسا مكثفا بعمق فكرته بأبعادها الفلسفية والرمزية، وإنما ترك لكل كتلة حرية أن تبتكر مساراتها وجمالياتها الخاصة، لتتماهى برشاقة وحنو مع الكتلة الكبيرة والتي تمثل الرحم الأم للتكوين. ويعبر العمل عن فكرة التنوع والخصوبة في الحياة، وأنها ليست صراعا بين إرادات فحسب بل هي في المقام الأول صراع بين أشكال، وكتل صماء وأخرى قادرة على أن تحول الصمم إلى لغة ممسوسة بطفولة الإنسان وتوقه الدائم إلى الحلم والحرية. وعلى ذلك سوف تكتشف العين المتفحصة أن ثمة علاقة حميمة بين المثلث الساجي على أحد جانبي التكوين، وبين الشكل البيضاوي الساجي في الجانب الآخر منه، مع ملاحظة أن كليهما تقبع فوق طرفيه كتلة أصغر لها سمت النسيج النحتي نفسه، تلعب دور الكائن النظير، لتوكيد الدلالة على التوالد والتكاثر، ليس فقط بين الأشكال، بل في لعبة الحياة نفسها.فالأصغر برغم أنه يفيض عن الأكبر، إلا أنه يمتلك المقدرة على أن يلده، كما أنه يختزل مقوماته وتضاريسه، لأنه ببساطة شديدة امتداد له ويعيش حياته فيه. وهو ما توحي به الكتلة الكبيرة المستطيلة، المنحوتة برهافة بالغة الأناقة والانسيابية، والقابعة عاموديا في سموق وثقة على قاعدة أخرى مستطيلة. وعلى جسد هذه الكتلة قدم الفنان حلولا جمالية لافتة فقام بشقها إلى نصفين بشكل حلزوني بسيط ليخلق مسارا للضوء يتناثر رذاذه بطفولة يانعة في حنايا وأسطح الكتل الكبيرة والصغيرة. كما قام بإثراء مسطح الكتلة نفسه بالحفر الخطي ذي الإيقاع المتموج طوليا وعرضيا، وببعض الموتيفات والتوشيات الجمالية التي تتدرج من أعلى لأسفل الكتلة وكأنها إيقاع لسلالم شفيفة تنتظر خطى الإنسان ليصعد إلى الأعلى والأعمق.

ولا تبتعد كثيرا عن هاجس الحرية بعض الأعمال التي لعبت على الجسد الأنثوي واتخذت منه مثيرا جماليا للنحت على هذا الصخر، ومنها أعمال اليوناني ديمتري سكالكوتوس، والمصريين: طارق الزبادي، وشمس القرنفلي، سعيد بدر، وسركيس طوسونيان، ومحمود الدويحي. لقد أظهرت هذه الأعمال مقدرة متفاوتة لدى الفنانين في التلامس مع الكتلة، ومحاولة أنسنتها عبر لغة غير منطوقة للفراغ، ومن خلال رمز الأنثى المحبب في تزاوجه الجسدي والروحي، وفي نسق تشكيلي يغلب عليه الطابع الصرحي، سواء في تكنيك البناء أو في الرؤية، لكن برغم ذلك لم تنفلت معظم هذه الأعمال من أسر النمط الشائع فنيا حول الأنثى، ولم تش بحضور خاص لها.