«صبّ القهوة».. أول مراحل اختبار «الرجولة» في السعودية

مهنة تراثية تخضع للتغيير

TT

فاحت رائحة التراث والأصالة، عندما بدأ الشاب قدري قاحص، رواية قصة ولعه بمهنة (صب القهوة) كواحدة من أكثر المهن ارتباطا بالقيم العربية الأصيلة.

وقاحص قد تمرس في هذه المهنة لسنوات طويلة يعمل لدى إحدى الجهات الحكومية في جهاز التشريفات يحمل في جعبته الكثير من المعلومات حول هذه الوظيفة أو المهارة التي بدأت العمالة الوافدة تزاحم في فك رموزها وتتفنن في إظهار قدراتها على اقتناص المهنة من روادها.

يقول قاحص، وهو يحاول تبهير مفرداته ببيت شعبي من الشعر عن مراحل تحضير القهوة «أحمس ثلاث يا نديمي على ساق.... ريحه على جمر الغضا يفضح السوق»، حيث يقول انه يفضل أن يكون «الصبّاب» عارفا بفنون القهوة وتجهيزها، مرجعا ذلك للعلاقة الحميمة التي يرتبط بها الشخص ورائحة القهوة لسنوات.

ويقول ان تجهيز القهوة العربية في أكثر من إناء مخصص يختلف من مدينة سعودية لأخرى حسب عادات كل منطقة، فهناك من يجهز إناء خاص لكل مرحلة من مراحل تحضير القهوة، وهناك من يكتفي بمرحلتين كما يحدث في مسقط رأسه نجران، حيث يجهز إناء كبير لتحضير القهوة وبعدها يتم «زل» القهوة، أي صبها من وعاء لآخر يكون أصغر بحيث يسهل حمله لمن يقوم بصب القهوة للضيوف، ويسمى ذلك الوعاء المصنوع غالبا من معدن «الصيني» بـ«المصفى». ويختلف لون القهوة من منطقة لأخرى بحسب درجة تحميص الحبوب ففي الجنوب مثلا تكون غامقة اللون اما في الشمال فتتخذ لونا فاتحا بالمقارنة.

ويطرب كثيرا قاحص، لصوت «النجر» وهو ما تطحن فيه القهوة بشكل يدوي، ويعتبر وقعه التناغمي، عند البدو، دعوة للتوافد وتناول القهوة، حيث تعتبر جلسة من يصنع القهوة في وسط المجلس، صورة تراثية لا تزال حاضرة في صدر الوقت الحاضر خاصة في المدن الواقعة على الاطراف الصحراوية للبلاد.

وظلت عادة تعليم «صبّ القهوة» للضيوف أحد مظاهر الرجولة التي يحرص الآباء على تعليمها لأبنائهم في سن صغيرة، ووفق قواعد بروتوكولية لا تقبل الخطأ على الإطلاق. إذ يتذكر سالم القحطاني، وهو موظف حكومي، أن أصول «صب القهوة» كانت تتصدر جدول اهتمامات والده وأشقائه الكبار، وكيف أنه بحكم كونه الأصغر سنا، كان هو المخّول بتقديم القهوة لضيوف والده، مشيرا إلى اعتزازه بتلك الجملة التي كان يسمعها كلما داهمه التعب واقفا يقوم على خدمة الجالسين من الضيوف وأحدهم يعلق «سيّد القوم خادمهم».

ولصب القهوة طقوس تبدأ بإمساك «الدلة» باليد اليسرى والفناجيل باليد اليمنى، وتعتبر سقطة كبيرة في حال تم عكس الامر قد يدفع بالوالد إلى تأنيب ابنه أمام الحضور. كما يجب الوقوف بشكل مستقيم والانحناء عند تقديم الفنجال للضيف مع ذكر كلمة تدل على العطاء كأن يقال في منطقة نجد «سم» أو «إلزم» في المنطقة الجنوبية، ليرد الضيف «تسلم». على أن يكون الأب، هو أول من يصب له الفنجال، كنوع من بر الوالدين الذي يظهر جليا في هذه النقطة التي يباركها الضيوف أنفسهم، بل ويحرصون على تنبيه الإبن في حال نسيانه بالإشارة إلى والده.

وفي التجمعات الكبرى يبدأ «الصباب» كما يطلق عليه، بمن يجلس في صدر المجلس ثم من هو على يمينه حتى الانتهاء من صف اليمين، ثم العودة لمن هو على يسار الجالس في صدر المجلس. وهي أمور تسير بتراتبية متفق عليها عرفيا ولا تثير غضب أحد كون كل حركة مخالفة، قد تحمل دلالات «عرفية» أخرى تصل لحد الشعور بالإهانة.

ويأتي التقدير وتضاده واضحا في القاموس العرفي عند البدو، إذ يحجب الفنجال في المجلس عن الفئات من الرجال الذين ترى الجماعة أنهم أقل قدرا نتيجة فعل شائن ارتكبوه، أو تقصير اجتماعي تخاذلوا عنه، وهو ما يعتبر إهانة كبرى للشخص، وسوادا للوجه، ويقال شعبيا «فلان معقب الفنجال» وفي هذا الجانب أشعار كثيرة تدل على أهمية دلالات القهوة، وأيضا ما قد يعترض «الصبّاب» من ردات فعل يجب عليه التحسب لها.

ويعود الخبير في شؤون القهوة، قدري قاحص، ليروي تفاصيل «صب القهوة» في المناسبات التي يكون فيها شخصيات اعتبارية كالأمراء والشيوخ، بأن التعليمات التي تعطى لهم تأتي متوافقة مع الاعراف القبلية في هذا الشأن، إذ يعطى الفنجال الأول، للأمير، أو من ينوب عنه، أو شيخ القبيلة. فيما هناك طريقة أخرى تسمى «السوق» وهي البدء من يمين المجلس دون الاخذ بالاعتبارات الأخرى، وعادة تكون هذه الطريقة في المرة التالية لتقديم القهوة للضيوف التي عادة ما تقدم عدة مرات. على أن هناك شفرات متعارفة كـ«هز الفنجال» حتى لا يقوم «الصباب» بتكرار الفنجال. فيما لا يتعدى في الغالب تقديم أكثر من خمسة فناجيل صغيرة للضيف، الذي عادة ما يقول «أكرم». كتعبير عن شكره واكتفائه من القهوة. والقهوة هي أول ما يجب «صبّها» للضيوف حال توافدهم، وبمقدار يقل عن نصف الفنجال بقليل، كدلالة على فخامة المشروب من جهة، وحب المضيف لضيفه ورغبته في أن يطول مدى جلوسه، إذ يرى كبار سن وعارفون ببواطن القبائل، أن هناك رسائل يمكن تمريرها للضيف في حال كان شخصا غير مرغوب فيه، بالإيعاز إلى «الصبّاب» بأن يملأ فنجان الضيف كدلالة على عدم الترحيب به. وهو ما يجعل من تعليم «الصبّ» عند كثير من السعوديين، لأبنائهم مسألة في غاية الأهمية، حتى لا يجدوا أنفسهم مضطرين للوقوع في إحراجات مع زوارهم، ربما تكلفهم أحيانا دفع تعويضات متعارف عليها قبليا بـ«الحق»، أي الخضوع لأي حكم يراه المصلحون بين الطرفين.

ورغم أن «صب القهوة» مسألة يتنافس عليها الشباب من صغار السن، لإثبات قدراتهم أمام آبائهم، على فهمهم لأصول الضيافة، وطمعا في إشادة من أحد الضيوف، غير أن مهنة «الصبابة» لا تحظى بنفس التنافس، كونها أيضا ارتبطت بمعايير قبلية تحتقر امتهانها وتراه نقصا لا يليق بالرجل، وهو ما فتح في السنوات الماضية المجال أمام العمالة الوافدة في امتهان «الصبابة» وأصبح مألوفا أن ترى شخصا من «شرق آسيا» أو «الهند»، وهو يصب القهوة في التجمعات الفندقية بمهارة «بدوي» من الطراز الأول، ولكن بزي «غربي». وهو ما يعيده قاحص إلى ضعف أجور العمالة الوافدة مقارنة بهم، وعدم انخراط الشباب في هذه المهنة نتيجة الصعوبات الاجتماعية التي تواجه هذه الحرفة التاريخية.

وعلى استحياء يبدو حضور المرأة في هذه المسألة هامشيا، إذ لا تشكل المعارف «البروتوكولية» نفس الأهمية لدى السيدات في إكرام ضيفاتهن، أو تعليم بناتهن، تراتبيات طريقة «الصب» مكتفيات بالأساسيات، كتقديم القهوة باليد اليمنى، والصب باليد اليسرى، وإعطاء الاولوية لكبيرات السن والبدء من يمين المجلس. فتبدأ الفتاة في صب فناجين القهوة ثم تمر من بعدها فتاة أخرى تحمل التمر. غير أن مناسبات الأعراس تظهر تفوقا للسيدات اللاتي يأتين بـ«صبّابات» مختصات طوال المناسبة، فيما يتفرغن هن لمهامهن الأخرى في الترحيب والتعبير عن الفرح. ولكن حتى في اوساط السيدات اختفت الصبابات القليديات وحل محلهن الوافدات واصبحن يرتدين الملابس التي يغلب عليها الطابع الغربي.

بينما يجد الرجل لذته في الجانب الآخر على القيام بـ«صب القهوة» والاشراف على مراحلها خطوة بخطوة، ويتنافس الشباب في المناسبات على من تكون له الحظوة في حمل «الدلة» لدرجة تصل في أحايين كثيرة لحد «التشاجر» خاصة بين صغار السن، المشحونين عادة بتعليمات أبوية غاية في الصرامة مفادها إثبات «الرجولة» بحمل «الدلة» وصبّها للضيوف، دون كلل أو ملل حتى وإن استمر واقفا لساعات. وفي الأفق تعزز القيمة الذكورية لصب القهوة من خلال أغنية شهيرة للمطربة سميرة توفيق وهي تصدح من طبقة عالية في حنجرتها «باالله صبّوا هالقهوة وزيدوها هيّل.... وأسقوها للنشامى عاظهور الخيل».