جاك شيراك.. الرقيق الأنيق

يودع قصر الإليزيه مخلفا ديكورا متميزا أشرفت عليه السيدة الأولى بنفسها

TT

قد تكون طريقة الرئيس الفرنسي الشهير جاك شيراك في نطق الكلام، متلفظا بالكلمات بتأن وكأنه يلقي شعرا، احد ابرز ما سيبقى في الذاكرة من هذه الشخصية اللافتة، التي شغلت المسرح السياسي الفرنسي لولايتين رئاسيتين. والى ذلك، شهيته الكبيرة للطعام التي دفعته الى انتقاد المطبخ الانكليزي بطريقة بعيدة كل البعد عن الدبلوماسية وأشعلت حربا إعلامية وثقافية لمدة طويلة بين البلدين. فهو لم يكتف بانتقاد نوعية مطبخهم بل أيضا طريقتهم في الأكل، الى حد قوله ان «المرء لا يمكن ان يثق بأناس يكون طعامهم على هذه الدرجة من السوء».

ولد جاك رينيه شيراك عام 1932 في الدائرة الباريسية الخامسة في باريس. تزوج عام 1956 من برناديت دو كورسيل، وهي من الطبقة الاستقراطية الفرنسية وله منها ولدان: لورانس وكلود.

وثمة تباين كبير بين نسب الزوجة الارستقراطي وعائلة شيراك المتواضعة، فهو ينحدر من عائلة مزارعين من منطقة كوريز ويقول ان اسمه يعود الى «لغة الشعر». وهو الابن الوحيد لعائلته (شقيقته توفيت في سن مبكرة). تلقى دراساته المدرسية في احدى المدارس في باريس قبل ان يلتحق بمعهد الدراسات السياسية في باريس حيث نال دبلوما عام 1954.

في تلك الفترة من حياته تأثر شيراك، ولو لفترة وجيزة، بالتيار اليساري الشيوعي وراح يبيع صحيفة «لومانيتيه» في الطريق، كما شارك في بعض اجتماعات الحزب، كما يروي.

بعد تخرجه مما يسمى بـ«المدرسة الصيفية» في هارفرد، عام 1953، التحق بمعهد الادارة الوطنية الشهير، الذي يتخرج منه كبار موظفي الدولة الفرنسية من دون ان يحصل على درجة ضابط، بسبب ماضيه في الشيوعية، ما اضطره الى طلب مساعدة خطيبته، ابنة الطبقة الارستقراطية التي تزوجها رغم تحفظ العائلة التي لم تر في شيراك عريسا مثاليا لابنتها.

وسرعان ما تمكن شيراك خريج مدرسة الادارة الوطنية، التي غالبا ما تخرج نخبة السياسيين الفرنسيين، من ان يصبح مساعدا لرئيس الوزراء الديغولي جورج بومبيدو عام 1960 قبل ان يصبح وزيرا مبتدئا (جونيور) في حكومته. وتوالت نجاحاته ليصبح رئيسا للوزراء للمرة الاولى عام 1974 وهو مركز شغله لعامين قبل ان يستقيل. كما عمل كعمدة باريس لمدة ثمانية عشر عاما، وهي مدة لا يضاهي طولها سوى لائحة الفضائح والاتهامات التي لاحقته خلالها، سواء من حيث سوء استخدامه المال العام، أو من حيث الألقاب العديدة التي التصقت به، مثل، بونابرت الحرباء، كاميليون بونابرت. لكن هناك جانبا في شخصية شيراك، يجعل الناس لا تملك إلا ان تحبه، ربما هو هدوء شخصيته التي يعكسها نطقه للكلمات وأسلوبه في الأزياء. فعلى العكس من خليفته، نيكولاس ساركوزي، فهو يبدو دائما في أناقة باريسية لا يعلى عليها، تساعده عليها قامته المهيبة، عكس ساركوزي، الذي لا يتعدى طوله 5 أقدام و5 بوصات فقط، ما يجعله يبدو أحيانا وكأنه يلبس سترات أكبر منه. على غرار الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، الذي ارتبط اسمه بمشاريع ثقافية كبيرة في فرنسا، منها متحف اللوفر واوبرا الباستيل، اراد شيراك، ان يرتبط اسمه، هو الآخر، بتحفة فنية، تزين عاصمة الثقافة، وترتبط بتاريخ رئاسته، فكان متحف الفنون القبلية او ما يسمى بمتحف «لو كي دو برونلي» الذي افتتحه عام 2006. الا انه لسوء حظ شيراك، لم ينج من انتقادات بعض ناشطي حقوق الانسان والمؤرخين، الذين اعتبروا ان المتحف يكرس وجهة النظر الامبريالية لتاريخ افريقيا. لكن إذا لم يكن المتحف سيخلد اسمه في التاريخ الفرنسي كما كان يتمنى، فإنه حتما سيبقى في الذاكرة كسياسي كلاسيكي وهادئ، وهو ما يعكسه مظهره الأنيق طوال الوقت، الذي يستحضر للذهن صورة الجنتلمان، كما سنتذكره كرجل خفيف الظل وسريع البديهة، يحب الطعام، وله في ذلك طرائف مشهودة.

لعل أشهر طرائف «الشاب الطيبش كما يقال عنه على الطريقة الفرنسية (لو بون غا) تعليقه على هامش لقاء مع المستشار الالماني السابق، غيرهارد شرودر، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، منتقدا الطعام الانكليزي. وبحسب التعليقات التي نقلتها صحيفة «ليبراسيون» فان شيراك اعتبر ان «الامر الوحيد الذي قدمه البريطانيون للزراعة الاوروبية هو جنون البقر» مضيفا ان بريطانيا «بعد فنلندا هي البلد الذي يقدم اسوأ الطعام».

ويروى ايضا ان شيراك تلفظ بتعليقات مماثلة عن الطعام، عندما دعاه الامين العام السابق لحلف شمال الاطلسي (الناتو) الى تذوق طبق اسكوتلندي فكان أن علق قائلا «مشاكلنا مع حلف الناتو تتأتى من هنا».

وشيراك الذي شغل المسرح السياسي الفرنسي خلال 12 عاما كان ايضا الشخصية الابرز لسلسلة من الفضائح، تتباين بين الفضائح النسائية والمالية، لكن جزءا من هذه الفضائح، المالية بالذات، لم تلاحقه وحده بل شملت ايضا زوجته برناديت، التي غالبا ما شكلت موضوعا للتندر في الصحيفة الاسبوعية الساخرة «لو كانار اونشينيه». كذلك، غالبا ما شكل شيراك الذي يحفل ماضيه بالحديث عن علاقاته مع النساء الموضوع ـ النكتة الابرز لمسلسل «لي غينيول دو لانفو» الساخر الذي يتناول حياة السياسيين الفرنسيين بالتندر.

وشكل أيضا احدى شخصيات برنامج «بابيت شو» الفكاهي (1982 ـ 1993) الذي يقدمه على انه «جاك الاسود» بصورة صقر ذي ريش ازرق.

واخيرا، قدم فيلم «في جلدة شيراك»، الذي تم عرضه في صالات السينما في 31 مايو 2006 صورة ناقدة جدا وساخرة من الرئيس الفرنسي السابق، حياته ومسيرته السياسية، هو الذي قالت عنه زوجته برناديت لدى خسارته القاسية في الحملة الانتخابية عام 1988 في مواجهة فرنسوا ميتران : «الفرنسيون لا يحبون زوجي» ثم عاد وانتصر مجددا وحل في قصر الاليزيه 12 عاما على التوالي. ويشهد قصر الاليزيه منذ أشهر استعداد شيراك للخروج منه، فالرجل الذي قطنه لمدة 12 سنة سيرحل عنه اليوم مخلفا، بالإضافة إلى الإرث السياسي، ديكورا مميزا أشرفت عليه السيدة الأولى بنفسها. وهذا ما ظهر على صفحات مجلة «باري ماتش» التي سمحت فيها برناديت لمصممها المفضل، كارل لاغرفيلد، مصمم دار شانيل، أن يصورها وهي تشرح له التغييرات التي أجرتها على هذا القصر الذي يعود إلى القرن الثامن عشر، بغرفه الـ 365. الصور التي التقطها لها، وهي تلبس قفازات بدون أصابع من تصميمه، استوحاها من سائقي الدراجات، قد تبدو غريبة على سيدة كلاسيكية في سن النضج، إلا انها كانت لفتة جميلة منها لمصمم قلما تفوت أي مناسبة لحضور عرض من عروضه، شتاء أو صيفا. وإذا كان الديكور يدل على شيء، فإنه يدل على أن شيراك وزوجته يحبان الحياة الجميلة والرغيدة، فهو ديكور فخم بكل المعايير. وتم تقدير ميزانية القصر السنوية، حسب التقارير الرسمية بـ 32 مليون يورو، لكن البعض يقول إنها أكبر من ذلك بكثير، نظرا لميولهما البورجوازية التي تنعكس على كل مناحي حياتهما بما فيه الديكور الداخلي، بدليل ان ميزانية القصر ارتفعت بحوالي 800% مما كانت عليه قبل عهد شيراك، حسبما صرحت به سيغولين روايال في إحدى حملاتها الانتخابية السابقة. وتشير بعض التقارير الى انهما يملكان قصرا وسط فرنسا اشترياه بـ 200.000 فرنك فرنسي في عام 1969، ويقدر الآن بـ 500.000، فضلا عن بيت ريفي ورثه شيراك عن والدته في نفس المنطقة يقدر ثمنه حاليا بـ 60.000 يورو. أما بالنسبة للأثاث واللوحات الفنية التي يمتلكانها فتقدر بـ 200.000 يورو، هذا عدا ما ورثته برناديت عن اسرتها. لكن تبقى هذه الأرقام والممتلكات جزءا بسيطا من ثروتهما الحقيقية التي تشير بعض الشائعات إلى أنه يحفظها في بنوك في اليابان. لكن هذه تبقى مجرد تكهنات نظرا لعدم توفر أي أدلة.

وقد وقع اختيار شيراك وقرينته على شقة من طابقين مساحتها 180 متراً مربعاً للإقامة فيها. وتقع الشقة في العمارة رقم 3 من رصيف «السين» المعروف باسم «كي فولتير»، على الضفة اليسرى من النهر، مقابل متحف اللوفر على الضفة الأُخرى والمعروف أن شيراك سيقيم مؤقتاً في هذه الشقة المملوكة لعائلة رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري.

ومنذ اساببع بدأ عدد من المصورين بالحضور أمام الشقة الواقعة في مبنى قاتم مشيد وفق الطراز التقليدي الفرنسي الذي صممه المهندس هوسمان أوائل القرن الماضي. ويأمل المصورون أن يلتقطوا أول صورة للرئيس الذي سيعود مواطناً عادياً وساكناً جديداً في الحي الواقع في الدائرة السابعة من باريس. ويبدو أن وجود «البابارازي» ضايق مدام شيراك فتدخلت الشرطة لإبعادهم.   وحتى الآن لم يشاهد أحد من الجيران الرئيس يزور مسكنه الجديد، لكن شاحنات راحت تتوقف أما المبنى لإنزال صناديق الكتب والملفات والممتلكات وبعض تماثيل الفنون الأفريقية التي عرف عن شيراك ولعه بها. كما قامت السيدة برناديت بالتردد على المبنى وزارت أصحاب محلات الأنتيكا الذين يتركزون في الحي لكي تحييهم.