عشاء ملكي في فاس بلمسة تاريخية ودلالات رمزية.. ومذاق خاص

احتفاء بخادم الحرمين الشريفين

TT

تتعدد اشكال الاحتفاء بالضيف في المغرب، وتتجلى في حرص المضيف على ان يقدم لضيفه احسن ما عنده من مأكولات وحلويات ومشروبات، ويعامله بكل ما يساعد على جعله يحس بحسن الوفادة ودفء الثقافة. هذا بالنسبة للمواطن العادي، فما بالك اذا كان الامر يتعلق بضيف ملك المغرب محمد السادس، ومن مقام الملك عبد الله بن عبد العزيز.

الثلاثاء ما قبل الماضي، اصر الملك محمد السادس عقب توديعه رئيسة ليتوانيا، فاثرا فيكي فريبيركا، بعد ان اقام على شرفها والوفد المرافق لها، مأدبة عشاء رسمية في القصر الملكي بالدار البيضاء، ان يغادر الى فاس على متن طائرة، حرصا منه على الاطلاع عن قرب على ترتيبات استقبال الملك عبد الله بن عبد العزيز، وجاهزية قصر الباهية لذلك، رغم ان زيارة خادم الحرمين الشريفين ستبدأ بعد يومين أي الخميس.

ويعتبر قصر الباهية في فاس، وهو مقر الاقامة الرسمي المفضل لدى الملك محمد السادس، حينما يحل بالعاصمة العلمية والروحية للمغرب. وهذه اول مرة يخصص فيها مقر الاقامة الشخصي لملك المغرب لرئيس دولة زائر، وذلك للتعبير عن اقصى درجات الحفاوة والترحيب بخادم الحرمين الشريفين، في حين انتقل الملك محمد السادس للاقامة في ضيعة الضويات الملكية الواقعة في ضواحي فاس.

ولم تتوقف اشارات الترحيب الكبير عند هذا الحد بل تواصلت وتوجت بمأدبة العشاء الرسمية، التي اقيمت في " دار القمة "،بالقصر الملكي ، وهي بناية حديثة العهد شيدت في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي،أي قبيل انعقاد القمتين العربية والاسلامية في فاس.

وتشكلت المأدبة الملكية من حوالي 35 مائدة، جلس حول كل واحدة منها 8 مدعوين، وبذلك يكون عدد المدعوين 280، قام بخدمتهم 100 نادل كانوا يرتدون نفس بدلة المدعوين، أي الجلباب المغربي الابيض، والطربوش الاحمر، الامر الذي جعلهم يتشابهون مع الضيوف.

وحينما بدأ تقديم العشاء كانت كل الامور تسير بانسيابية، ثمة دقة متناهية وتناغم كبير، يقول احد الحاضرين، قبل ان يضيف: «كل الصحون كانت توضع على جميع الموائد في نفس اللحظة، بما فيها المائدة الملكية، كما كانت ترفع منها أيضا في وقت متزامن».

وتجدر الاشارة الى ان الاكل المقدم لضيوف القصر الملكي، يحرص الملك محمد السادس شخصيا على اختياره، فهو الذي يحدد مكونات الخوان (قائمة الأكل). كما ان الاكلات المقدمة يصعب تناول مثلها في المطاعم والفنادق، فطعم محتويات الخوان الملكي، تختلط فيها لمسات التاريخ بمذاق خاص.

ومثل والده الملك الراحل الحسن الثاني، يشرف الملك محمد السادس على ادق التفاصيل في المطبخ الملكي، خاصة لدى استقباله ضيوفا كبارا. يذكر انه كان للملك الحسن الثاني ولع خاص بفنون الطبخ قديمها وحديثها، وأنه كان يتفقد مطبخ القصر، ويناقش الطباخين في عملهم، وبشأن كيفية تحضير الوجبات، بل ان بعض المقربين من الملك الراحل يقولون انه كان يخترع اكلات مغربية. لقد كان ذواقا وإن لم يكن مولعا كثيرا بالطعام.

وروت الاميرة للا حسناء، كريمة الملك الراحل، وشقيقة الملك محمد السادس، في تصريحات صحافية قبل شهور، كيف ان الملك الحسن الثاني حرص على ان تتعلم بناته الاميرات الطبخ، وكيف انهن كن يذهبن في بداية مراهقتهن لتعلم دروس الطبخ مساء كل يوم سبت، وعلى امتداد 10 سنوات.

وبالعودة الى الخوان، الذي قدم للملك عبد الله والوفد المرافق له، والمدعوين المغاربة، فانه تضمن كشكولا من الاكلات المغربية، تصدرتها سلاطة معسلة متنوعة تتكون من طماطم معسلة، والباذنجان المعسل، والجزر المعسل، وتلاها تقديم شواء ملكي، وهو عبارة عن لحم خروف مشوي، يعد بطريقة تبقى سرا من اسرار المطبخ الملكي، اذ يبدو ان اللحم يبخر بالماء، ويتم حشوه بعد ذلك بتوابل ومواد تجعل مذاقه اكثر لذة، قبل ان يوضع في الفرن. لا يكتمل تناول الشواء ولا لذته الا بارتشاف كأس من الشاي المنعنع معه.

اما الاكلة الرئيسية الثانية في الخوان فهي سمك على الطريقة المغربية محشو بالارز والزيتون الاخضر، وبمجرد تقديمها للضيوف، يقدم الى جانبها عصيرا الزنجبيل والحليب باللوز، وهما نوعان من العصير لا يقدمان الا في حفلات ومآدب القصر الملكي. وبالنسبة للاكلة الثالثة، وهي عبارة عن دجاج مطبوخ على الطريقة الصويرية (نسبة الى مدينة الصويرة الواقعة جنوب الدار البيضاء)، فقد قدمت هذه الاكلة، وهي عبارة عن دجاج منزوع من العظم، لكل ضيف في طاجين خاص، اخضر اللون، كتب عليه باللغة العربية اسم «محمد السادس».

وفي مرحلة رابعة، تم تقديم طاجين «المقفول بملج العجل المعسل»، وهو عبارة عن لحم فخد عجل طري، مطبوخ ببصل صغير، ويحتوي على مرق معسل.

ويعتبر «الطاجين» وجبة قومية في المغرب، وتدل الكلمة على وعاء الوجبة، وعلى الوجبة ذاتها. فالوعاء هو عبارة عن صحن مصنوع من الفخار مزين بغطاء مخروطي الشكل. أما الوجبة نفسها، فهي غالبا ما تكون مكونة من اللحم او الدجاج او السمك، اضافة الى الخضر والتوابل اللذيذة المذاق.

وفي مرحلة اخيرة، توجت المأدبة الملكية بتقديم «كسكس بلحم وسبع خضر»، وهي اكلة مغربية ذائعة الصيت في جميع انحاء المعمور، ويتناولها المغاربة عادة كل يوم جمعة خلال الغداء، واحيانا يتناولونها في العشاء خاصة في الافراح والاعراس. اما الخضر المشكلة للكسكس فهي الجزر واللفت والفول والقرع واليقطين والبصل والطماطم. والكسكس وجبة شعبية، بيد ان هناك انواعا متعددة منها، نظرا لان كل منطقة في المغرب لها طريقتها الخاصة في تحضيرها وطهيها.

واعتبر كثير من المدعويين المغاربة، الذين تعودوا حضور المآدب الملكية ان مأدبة العشاء التي اقيمت احتفاء بخادم الحرمين الشريفين، تميزت بتقديم خوان غير مسبوق، اذ تم خلالها لاول مرة تقديم «صوربي» بالزنجبيل (ايس كريم خفيف)، وآخر بالتمر، وذلك خلال الفترة الفاصلة بين تقديم الاكلات الرئيسية. ويبقى المغزى من ذلك هو جعل المدعويين يغيرون مذاق لسانهم عند الانتقال الى تناول اكلة اخرى، وذلك حتى يتسنى لهم تذوق الاكلة الموالية والاستمتاع بنكهتها وتوابلها الخاصة.

واضاف بعض الحاضرين ان الانطباع الذي خرج به ضيوف الملك من المأدبة هو انهم اكتشفوا لاول مرة وجود «صوربي» بالتمر، واخر بالزنجبيل. اما «الديسرت» التحلية، التي قدمت للضيوف فشملت «المحلب» بالقرفة، أي كريم بمذاق القرفة، اضافة الى «الصبيعات» بالتمر، وهي عبارة عن عجينة مرققة شبيهة بـ«السبرينغ رولز» محشوة بالتمر. يذكر ان الملك عبد الله بن عبد العزيز زار المغرب عام 2001، زيارة رسمية، ايام كان وليا للعهد، واقام الملك محمد السادس انذاك على شرفه مأدبة عشاء رسمية في القصر الملكي في اكادير (جنوب المغرب)، وتضمن الخوان وقتذاك، عدة اكلات مثل «شواء ملكي»، و«سمك معمر (محشو) بالارز والفلفل الاحمر»، و«بسطيلة بالدجاج والخضر والشعرية» (نودلز)، تم اعدادها على طريقة تحضير السمك.

أما البسطيلة، فهي عبارة عن عجينة مرققة تكون محشوة اما بلحم حمام واللوز، او الدجاج او السمك، وهي من الاكلات التي يتميز بها المغرب، باعتبارها مالحة وحلوة في نفس الان، بل انها في بعض الاحيان تقدم مخلوطة مع الحليب كنوع من الحلوى بعد الاكل، وهو ما تم بالفعل تقديمه للضيوف في نهاية المأدبة الملكية.

وبعد البسطيلة قدم «المقفول» بلحم الغنم والبصل، اضافة الى سميدة بالدجاج والبصل والحمص والزبيب.

ويبقى «عشاء» فاس الاخير متميزا ومغايرا حتى بالنسبة للجانب الموسيقي، اذ جرت العادة ان يكون اداء الموشحات والاغاني الاندلسية جماعيا، بينما تم اداؤها هذه المرة بشكل منفرد.

وبعد هذه المأدبة الملكية الدسمة لا يظل الطبخ المغربي مجرد وجبة يتناولها المرء ثم ينهض منصرفا الى حال سبيله، مبديا اعجابه وانبهاره بمذاقه الخاص، بل لا بد ان يكتمل الامر باستحضار العراقة والرمزية التاريخية التي تلقي بظلالها على اشهر الوجبات المغربية. والى جانب ذلك، فان الطبخ المغربي ليس مجرد طهو طعام وتناوله، فثمة طقوس ترافق عملية اعداد الاكل، تجعل من يتناوله يخضع لقوة الاعراف والتقاليد، ويصبح اسير ما تركه الاجداد من ثقافة «أكلية» غنية ومتنوعة.