ريح الموسيقى تهب على مدينة الرياح

10 سنوات من مهرجان كَناوة جعلت «الصويرة» وجهة مفضلة للمغاربة والأجانب

TT

يُفضل الشاعر العراقي سعدي يوسف أن تكون المدن «طليقة الأنفاس ومفتوحة وألا توجد فيها حواجز كثيرة». ومن جهته، كتب الشاعر محمود درويش أن «المدن رائحة»، وأن كل مدينة لا تُعرف برائحتها «لا يعول على ذكراها».

ومن المؤكد أنه لو قدر لدرويش أن يزور ويكتب عن رائحة الصويرة المغربية لاحتاج إلى أكثر من جملة واحدة يصفها بها. ومن المؤكد ايضا أن سعدي يوسف، الذي عاش متنقلاً بين مدن عديدة، عربية وغربية، كان سيكتشف أن التعريف الذي حدده للمدن التي يفضلها سيبدو كما لو أنه كُتب وفُصل على مقاس الصويرة، المدينة التي تنام على المحيط الأطلسي، والتي صارت تشهد في السنوات الأخيرة نشاطاً سياحياً مهماً. ولربط الحاضر بالماضي، تُعرف مدينة الصويرة ايضا باسم «موغادور». كما أنها توصف بأنها مدينة الرياح، ويشاع أنها لا تحب الغرباء، وأنها تعبر عن غضبها بالرياح. ولأنها لا تكاد تخلو من السياح، فإن رياحها لا تهدأ.

بعض المهتمين بالمدينة وتاريخها يقولون إن للصويرة نكهة برتغالية حين تدير ظهرها إلى البحر، ونكهة إسلامية ويهودية حين تنكفئ على ذاتها داخل أسوارها السميكة، لنكون، بالتالي، مع ثنائية المنفتح ـ المنغلق، كثنائية جدلية انكتب بها تاريخ المدينة.

وتنقل كتب التاريخ أن تاريخ الصويرة عرف العديد من التحولات التي انطلقت آثارها مع الفينيقيين ثم الرومان، وصولاً إلى البرتغاليين، الذين يعود إليهم أصل تسمية «موغادور»، غير أن التحول الأبرز والأهم الذي عرفته المدينة كان على عهد السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، الذي أراد، انطلاقاً من العام 1760، أن يعطي للمدينة شكل المدينة التجارية المنفتحة على العالم، عبر مينائها الذي فتح في وجه الملاحة الخارجية.

ويذكر المؤرخون أن السلطان العلوي، الذي كان شديد الحرص على تحصين الثغور والمدن الرئيسية الساحلية، كلف المهندس، تيودور كورني، المتخصص في بناء الحصون العسكرية، بوضع التصميم العام للصويرة.

وإذا كانت الصويرة قد عُرفت في الماضي عبر ما يؤرخ لها ولمراحل تشكلها، فإنها في الحاضر صارت تعرف بمهرجاناتها، أيضاً، وخصوصاً «مهرجان كناوة وموسيقى العالم».

وتوصف موسيقى «كناوة» بأنها ليست مجرد موسيقى عادية، من جهة أنها ذات إيقاعات قوية محملة بثقل الأساطير والمعتقدات الموغلة في القدم، وبكونها مشحونة بالإرث الحضاري الأفريقي والبربري والعربي، تناجي الأرواح الخفية وتغازلها، وتتوسل بالإيقاعات والألوان وإحراق البخور، وكل الوسائط الخفية الأخرى، كما تتوسل بآلات خاصة، مثل «الكنبري» أو «السنتير» (عبارة عن آلة وترية من ثلاثة حبال)، و«الكنكة» (الطبل)، ثم «القراقش» (صنوج حديدية).

وكانت انطلقت علاقة الصويرة بموسيقى «كناوة»، التي تعود إلى أصول أفريقية، منذ القرن 17، بعد أن كانت قد تحولت إلى مركز تجاري مهم ونقطة تبادل تجاري مع «تمبكوتو».

وبين أحداث الماضي وأيام الحاضر تترك المدينة لطيور النورس البيضاء مهمة الترحيب بزوارها، الذين صاروا يزدادون سنة بعد أخرى، وخصوصاً بعد أن صارت مهرجانات المدينة موعداً سنوياً يتطلع إليه عشاق الموسيقى، مغاربة وأجانب.

ومع السنوات، استطاعت الصويرة أن تراكم مهرجاناتها مؤكدة الطابع الثقافي لسياحتها، الشيء الذي جعلها محط إعجاب لافت، حتى صار بعض المتابعين للتحولات التي تعيش على إيقاعها مدينة الرياح يتحدثون عن «روح الصويرة»، التي وجدت صداها في التنمية الاقتصادية التي صارت تعرفها المدينة، بعد أن زادت وتيرة الاستثمارات، وخصوصاً في ما يتعلق بالفنادق والمطاعم، الشيء الذي مكن من خلق فرص الشغل وأنعش الصناعة التقليدية.

وهكذا، في ظرف عشر سنوات، صار مطلوباً من مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 70 ألفا أن تستقبل حوالي نصف مليون، يملأون شوارعها وأزقتها، صخباً وموسيقى، في ما يشبه الانتقال من الهدوء إلى الجنون، غير أنه جنون موسيقى تتغنى بالحياة فيما تحث المدينة على أن تطور وترفع من إيقاع نشاطها الاقتصادي والتنموي. وتماشياً مع ما ينقل ويلخص لمضمون هذه التحولات التي صارت تعرفها المدينة، يؤكد المنظمون أن طموحهم يبقى في المحافظة على هوية وتاريخ الصويرة وجعلها، كما كانت دائماً، مدينة مفتوحة ومدينة للحوار.

واليوم، و«مهرجان كَناوة وموسيقى العالم» يعيش على إيقاع دورته العاشرة، التي تتواصل إلى غاية يوم السبت المقبل، فإن كل من يتذكر الصويرة قبل عشر سنوات يستعيد أيام مدينة ظلت تخصص للاستراحة من عناء التنقل بين مدن كمراكش وأكادير، حيث يكتفي العابر بطبق من السمك أو تذكار تقليدي من خشب «العرعار»، قبل أن يواصل رحلته.

وما بين الدورة الأولى والدورة العاشرة، تبرز النقلة النوعية التي حققها المهرجان، حيث أنه قطع أشواطاً حقيقية اتسعت معها دائرة المولعين والأوفياء لدوراته. ففي الوقت الذي لم يتعد فيه جمهور الدورة الأولى حدود العشرين ألفا، نجده قد ناهز مع الدورة التاسعة نصف مليون، ما يوضح الصدى والصيت اللذين صارا للمهرجان، واستطاعا أن يبعدا عنه السقوط في الطابع الفلكلوري، وأن يتميز عن باقي المهرجانات، محافظاً على نفس الفلسفة التي من أجلها انطلق أول مرة.

لكن، ما يميز التطور الذي عرفه المهرجان ليس ما يبني للرسومات البيانية التي قد توضع لقياس مدى التطور المسجل بصدد الأرقام المرتبطة بالميزانية المخصصة للتنظيم أو أعداد الزوار ومستوى وجنسيات الفرق المشاركة أو قيمة المحتضنين، بل في المضمون والمناخ العام الذي ظلت تتنفس على إيقاعه مختلف دورات المهرجان، الشيء الذي منحة تميزاً أعطاه بعداً عالمياً.

ومن المعروف أن جمهور «مهرجان كناوة وموسيقى العالم» يختلف عن كل جماهير المهرجانات الأخرى، فهو متنوع اللغات والجغرافيات والأعمار، يجمع الطلبة بالوزراء، والموظفين بالعاطلين، والمغاربة بالأجانب، حيث الكل يتوحد في عشق هذه الريح الفنية التي صارت تهب كل سنة على مدينة الرياح. لكنها ريح تتطلب من عشاقها ومريديها أن يقبلوا عليها من دون ربطات عنق، وربما بتسريحات شعر فيها شيء من عقد سبعينيات القرن الماضي وكثير من «دوخة» الألفية الثالثة.

ومع توالي الدورات، صارت المدينة الصغيرة والوديعة تضيق بزوارها، الذين لا يولي معظمهم كبير أهمية لمكان الإقامة والنوم أو الأكل، حيث تتحول الصويرة خلال فترة المهرجان إلى مدينة استثنائية، لا تنام.

المنظمون، ونظراً لأن المهرجان يحتفل هذه السنة بالذكرى العاشرة لتأسيسه، يؤكدون أن هذه الدورة ستكون ذات طابع احتفالي، وأنها ستكون أكثر متعة. وهكذا، فقد تم التمديد في أيام المهرجان، كما تم التطوير في شكل وطبيعة البرمجة، عبر إشراك كافة أحياء المدينة في فعالياته، والتنويع في المواد المبرمجة. كما حرص المنظمون على أن تتميز الدورة بمستوى موحد من حيث الجودة، منذ البداية إلى النهاية، بمعنى أنه لن يكون هناك نجم معين في المهرجان، أو أن يكون الافتتاح أقوى أو الاختتام أقوى، وإنما ستكون كل فقرات المهرجان قوية ومتجانسة.

ومن خصوصيات هذه السنة، كذلك، نجد فكرة اللقاءات الفنية، حيث تمت، قبل المهرجان بأيام، برمجة لقاءات بين بعض الفنانين الأجانب وبعض الفنانين المغاربة، حتى يتدربوا على موسيقى «فيزيون» تُعد وتقدم أول مرة أمام جمهور مهرجان الصويرة.

ويَعد البرنامج الفني للدورة العاشرة، التي تنظم تحت الرعاية السامية للملك محمد السادس، بطبق غني موسيقي وثقافي غني، إذ تشارك في العروض الموسيقية 25 فرقة كناوية و 250 فناناً من المغرب و150 فناناً من الخارج، تحتضنها «ساحة الخيمة» و«رحبة الزرع» و«زاوية حمادشة» و«منصة مولاي الحسن» و«دار الصويري» و«صقالة المدينة» و«عند كبير» و«باب مراكش» و«منصة آفتر»، وهي عروض برمج معظمها بعد السادسة إلى ما بعد منتصف الليل.

كما يتميز البرنامج الموسيقي للمهرجان بالحضور المغربي المكثف، من خلال مجموعات «تكادة» و«هوبا هوبا سبيريت» و«الفناير» و«آش كاين» والمجموعة السوسية «الباز» ومجموعة «إمغران» من تيزنيت و«بانكور فيزيون» و«أحواش حاحا» من الصويرة و«كانكا تامانار» و«طقيقطيقة» و«الحضارات» من الصويرة و«بنات الهواريات» من مراكش. أما التظاهرات الثقافية، التي خصصت لها الفترة الصباحية وفترة ما بعد الزوال، فستعرف تنظيم ندوة تحت عنوان «فن وثقافة»، وبرمجة لقاءات تجمع الموسيقيين والصحافيين وزوار المهرجان، وعروض لأفلام وثائقية، مثل «تاريخ مهرجان» و«جذبات كناوة» و«وجدان»، مع موكب للدمى العملاقة المتحركة وعروض ضوئية.