سائق تاكسي يسرد حكايته مع «الفورد» و«الهاف» و«أبو شنب»

في كتاب «الساحل في الزمن الراحل» رحلة مع قدوم السيارات للسعودية

TT

لم تعد حرفة التأليف والنشر مرتبطة بالنخبة من كبار المثقفين في السعودية، ومرتادي الأندية والصالونات الأدبية والفكرية، بعد أن دخل أصحاب مهن أخرى مجال الكتابة والرصد من بابه القديم المتجدد؛ الحياة اليومية.

حسن الشهابي، وهو سائق أجرة على الطرق السريعة، في العقد السادس من عمره، أمضى جل حياته راصدا لحياة الناس وعاداتهم باختلاطه اليومي بهم، ووجد نفسه مهيأ بعد كل تلك السنين، ليسجل حكايته في كتاب متواضع من الناحية الفنية ـ وقيّم بالمعلومات التي فتقدها المكتبة في السعودية.

وعلى طريقة الأولين في تسمية كتبهم، واختيار المسميات التي تعتمد على «السجع» و«الطباق»، جاء كتاب الشهابي «الساحل في الزمن الراحل» ليحكي بداية دخول الخدمات لسكان المناطق الساحلية من القبائل المعروفة بين مكة المكرمة وجازان، راويا كيف استقبل الناس رحلة الملك فيصل بن عبد العزيز، عندما كان نائبا لوالده الملك عبد العزيز في الحجاز، ومقدمة على رأس السيارات الملكية التي كانت تعتبر نواة الجيش السعودي «وصل الملك فيصل، ترافقه زهاء مائة سيارة إلى مدينة جيزان بطريق البر»، كأول سيارات تسلك ذاك الطريق.

ويحكي المؤلف الشهابي، كيف أن أول سيارة وصلت الى منطقة تسمى «دوقة» تقع على الساحل، كان في منتصف الاربعينيات الميلادية، ولم يكن السكان المحليون وقتها يعرفون هذا الكائن الغريب. يقول «أول سيارة وصلت دوقة شممنا رائحتها قبل أن نراها، ثم سمعنا صوتا غريبا، قال من يعرفون السيارات بين مكة وجدة، إن هذا صوت سيارة، وكانت سوداء اللون».

والمؤلف الشهابي الذي قطع دراسته الابتدائية، كما يحكي في سيرته الذاتية المرفقة بالكتاب، يحفظ أسماء الماركات العالمية للسيارات، التي وردت للسعودية في بداية عهدها، ومنها نوع يسمى «فدلر»، وكانت تستعمل لنقل المؤن والركاب، ونوع آخر اسمه «دومنتي» وماركة أخرى كان الناس يفضلون تسميتها «أبو شنب». وقال في جزء آخر من كتابه المثير، والذي اعتمد فيه على روايات معاصرين، إن مدينة جدة بكاملها لم يكن بها سوى 20 سيارة في عام 1924، وكانت «ملكا لمؤسسة نجدية، كانت تنقل بعض الحجاج، لأن معظم الناس كانوا يركبون الجمال ولا يقبلون على السيارات لغلاء الأجرة والخوف، وقد يكون هربا من رائحة البنزين «لما كان يعانيه الناس في حينها من شعور بالغثيان، كون السيارات كانت تحمل مؤونتها من البنزين معها في براميل إضافية، نظرا لعدم وجود محطات للتزود بالوقود.

وقال الشهابي، إن السيارات دخلت ذاكرة الشعر من أوسع أبوابه، حيث أكثر الشعراء السائقين من ذكر سيارة (الفورد) وماركة أخرى كان اسمها (الهاف) والتي لا يزال بعض منها موجود في متاحف وطنية في السعودية، حتى ان الهجاء انتقل من الصفات إلى المركبات وقدرتها على مجابهة الطرق الوعرة.

واللافت أن الشاعرات دخلن مبكرا في الاهتمام بالسيارات في السعودية، وأن المسألة في قيادتها أو التغزل بها ليس أحد مظاهر العولمة، إذ تأتي الشاعرة بخوت المرية، وهي من أهم شاعرات عصرها، لتقول في وصف ما في جوفها من العشق بأنه يشبه صوت سيارة في منطقة مرتفعة: (ألا ياحنّ قلبي حن ماك مع الطلعات/ ليا عشّقه بالعايدي والدبل جره) وهي معلومات تكشف خبرة بفنون التعاطي مع القيادة وليس مشاهدة السائقين فقط.

ويذهب المؤلف في سرد ذكرياته مع تلك الطرق، وكيف كانت أشرطة المطربين، وقصائد السائقين والركاب، وذبذبات الراديو، هي رفيقهم وسميرهم في تلك الذرى الموحشة، ليحكي كيف عارض قصيدة للمتنبي فيها هذا البيت: «الليل والخيل والبيداء تعرفني... والسيف والرمح والقرطاس والقلم»، ليرد هو مباشرة «الرمل والضلع والإسفلت تعرفني... والوسقة.. الليث والميقات والجبل» «أنا الذي شكت الطرقات من سفري... وأسمعت كفراتي من به صمم». وهي لا شك مداعبة لطيفة أراد بها الشاعر والمؤلف هنا، إظهار قدراته الشعرية الفصيحة، مستخدما أسماء مدن يعبرها يوميا، محملا سيارته بالركاب والمؤن.

والطريف في روايات الشهابي، ما ذكره من أن سائق الشاحنة، التي كانت هي وسيلة النقل الأولى، ينزل الركاب في الطبقة العليا عند بداية الدخول على «القرى» الواقعة على الطريق الساحلي، ويتركهم يمشون حتى نهاية العمران حتى لا يكشفون المنازل المجاورة، وما في وسطها من العائلات نظرا لارتفاع الشاحنة قياسا بتلك المنازل البسيطة.

وتأتي قائمة أشهر السائقين وأصحاب الملكات الخارقة في القيادة، كأحد فصول الكتاب، حالهم حال من يشتهرون حاليا بتطبيق الحركات المميتة، فيما يسمى فنون «التفحيط» أو «التطعيس»، ولكن بشكل آخر يعتمد على ضبط إيقاع حركة أقدام ويد السائق بشكل يجعل من قيادته تلك أحد أبرز العوامل الجاذبة إليه من الركاب، كون طريقته تلك تجلب المتعة وتطرد النعاس.

الكتاب لم يغفل الوقوف عند استراحة الذكريات، وتناول قهوة التداعيات حول طبيعة الحياة، والأزياء، والعادات، وأهوال السفر، وتسميات المدن والقرى، واضعا تلك الحقبة الزمنية من الستينات وحتى مطلع الثمانينيات، في حقيبة الوعي «المكتوب» رغم أن ذكريات كثيرة عند آخرين عاشت وماتت بوفاة أصحابها، لأنها اعتمدت «المشافهة» وغياب «التدوين».