«مدائن صالح» في اليونسكو اليوم

بهدف دعم تسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي

معرض «مدائن صالح» باليونسكو يلقي الضوء على أثر تاريخي هام
TT

تحتضن قاعات منظمة اليونسكو بباريس اليوم أول معرض سعودي يروي قصة أهم معلم أثري يحتضنه ثرى المملكة العربية السعودية.. «مدائن صالح» التي توجد في الشمال الغربي من المملكة (300 كم شمال المدينة المنورة) والتي سكنها قوم ثمود والأنباط قبل آلاف السنين، تعود من أعماق التاريخ لتحل ضيفة على اليونسكو ولعدة أيام لكي يطلع المتخصص والزائر على هذا الأثر الإنساني الذي لم يعطه المؤرخون الاهتمام الذي يليق به. هذا المعرض الذي تنظمه المندوبية الدائمة للمملكة العربية السعودية لدى منظمة اليونسكو، بالتنسيق مع الهيئة العليا السعودية للسياحة، سيفتتح على شرف الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز الأمين العام للهيئة العليا للسياحة بالسعودية وبحضور كل من مدير عام منظمة اليونسكو السيد ماتسورا، ونائب وزير التربية والتعليم السعودي الدكتور سعيد بن محمد المليص، والمندوب الدائم للمملكة لدى اليونسكو الدكتور زياد بن عبد الله الدريس. المعرض الذي يضم صورا فوتوغرافية لمدائن صالح وسكة حديد الحجاز يحكي تاريخا.. وهذا الإرث التاريخي الحضاري الذي يرجع الى بداية الألف الأول قبل الميلاد بدأ يأخذ طريقه للعالمية في أروقة المنظمات الإقليمية والدولية المعنية بالحضارة والثقافة والآثار. وأكد الأمير سلطان بن سلمان في تعليق نشر على موقع الهيئة العليا للسياحة «أن إقامة هذا المعرض تأتي ضمن الخطوات الهادفة إلى التعريف بالمواقع الأثرية التي تزخر بها المملكة، وإبراز الثروات الوطنية على المستوى العالمي، كما أن المعرض يهدف في حد ذاته إلى دعم تسجيل بعض المواقع المهمة وفي مقدمتها مدائن صالح ضمن قائمة التراث العالمي المعتمدة لدى المنظمة الدولية، وهو الأمر الذي إذا تحقق سيتيح الفرصة في التعريف بالمواقع الأثرية التي تزخر بها بلادنا على المستوى الدولي وكذلك تطويرها وفق الضوابط المتعارف عليها دوليا». تجمع «مدائن صالح» بين واقعين فريدين ومتباعدين، فهي في مظهرها الخارجي في هيئة قصور نبطية، لكنها في داخلها وفي أعماقها هي أيضا مقابر ثمودية. وهي على ما يبدو نبطية المعالم نظرا لواجهات المباني التي هي على هيئة قصور ولأنها كانت منطقة عمرانية هائلة، كما يذكر ذلك عالم الآثار الدكتور فرج الله يوسف من أن «الحجر ـ مدائن صالح تمتعت بحركة عمرانية هائلة في عهد ملك الأنباط الحارثة الرابع (9 ق م ـ 40 م) حتى أنها تحولت إلى عاصمة ثانية لمملكة الأنباط ونافست البتراء. وما يميز هذه المنطقة ايضا هو تلك الجبانة الشاسعة وواجهاتها التي لا تزال في حالة جيدة وهي مقابر منقورة في الصخر الطبيعي، ولها واجهات متعددة المستويات تنتهي من أعلى بما يمثل درجات السلم. وتزين الواجهة أشكال من الحيوانات الخرافية تمثل رموزا لطقوس كانت تمارس في ذلك العصر والذي ينسب إلى الأنباط. وحسب بعض الإحصاءات يبلغ عدد المقابر حوالي ثمانين مقبرة إضافة لعدد آخر من المقابر تحمل تاريخا بدأ من العام الميلادي الأول حتى عام 75م. تلك المقابر المنحوتة في الصخر لها واجهات جميلة وعلى شكل حجرات ذات مقاسات متفاوتة لدفن بعض علية القوم. وتبلغ مساحة «مدائن صالح» 13.39 كلم مربع ويبلغ عدد المدافن 131، هي بحق مثال حي على ما تحتاجه آثار المنطقة من مشروع كامل للتسجيل والدراسة وعمل الخرائط الأثرية والتسجيل ضمن التراث العالمي باليونسكو. هذه المدينة الأثرية كانت ضمن، وبجوار، ممالك سادت ثم بادت، مثل مملكة ديدان التي قامت في القرن السادس قبل الميلاد وحتى بداية القرن الخامس، كذلك مملكة لحيان التي قامت ببدايات القرن الخامس قبل الميلاد وزالت بنهاية القرن الثالث قبل الميلاد، ومملكة معين التي يحدد تاريخ ظهورها من منتصف القرن السادس قبل الميلاد وتمكنت من الاستمرار حتى مطلع القرن الأول الميلادي. ثم مملكة اللحيانيون وهم من قبائل جنوب الجزيرة العربية، ثم أخيرا مملكة الأنباط التي تتحدر من قبائل عربية سكنت أراضي ما بين العراق وسوريا فاستولت على البتراء و«مدائن صالح» وقد وصل الأنباط إلى مرحلة متقدمة من الرقي قبل استيلاء الرومان على سوريا عام 65 قبل الميلاد وبسط نفوذهم على مدائن صالح. وقد كانت «مدائن صالح» معملا أو خليطا من اللغات والنقوش المتنوعة التي خلف اغلبها الأنباط، وخاصة اللغة الآرامية والثمودية وغيرها. ولا يبعد هذا المعلم عن العمران والحياة المدنية الحالية، فهو قريب من محافظة العلا التابعة لمنطقة المدينة المنورة، ولا يبعد عن طريق التجارة القديم الذي كان يربط ما بين جنوب المملكة والجزيرة العربية بصفة عامة وبلاد الشام، وبالقرب منها كان يسير خط الحجاز للسكك الحديدية الذي أقامة العثمانيون. يجدر هنا التنويه لبعض المجهودات التي تمت نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لبعض الرحالة والآثاريين الغربيين، الذين تمكنوا من تحقيق بعض الدراسات حول «مدائن صالح»: حيث نجد أن أول محاولة ناجحة لزيارة هذا الموقع قام بها الرحالة البريطاني الباحث دوثي Ch. Doughty خلال عامي 1876/1877م تبعه فيما بعد بسنوات قليلة الباحث الفرنسي هوبير Ch. Huber والألماني اوستنغ J. Euting وجل ما قام به هولاء البحاثة الثلاثة تم تجميعه وصدر عام 1889م في مجلد مخصص لذلك. لكن التقصي المنظم للموقع تم بين عام 1907 و 1910م على يد رهبان المدرسة الآثارية الفرنسية في القدس، بعد الحرب العالمية الأولى، حيث زار «مدائن صالح» الدبلوماسي البريطاني السابق ومستشار الملك عبد العزيز جون فيلبي J. Philby وألف كتابا صدر عام 1957م عنوانه أرض مدين The Land of Midian. أيضا بعد فيلبي يجب أن نشير إلى ما تم تحقيقه عام 1962م بواسطة الآثاري الكندي وينيت F.V. Winnett وريد W.L. REED، وتم نشر النتائج تحت عنوان الإنجازات القديمة في شمال الجزيرة العربية، التي صدرت عام 1970م. كما كان هناك عام 1968م طاقم من جامعة لندن تحت إشراف بار P. PARR وصلوا للموقع وفيما بعد نشروا نتائج بحوثهم في نشرة معهد الآثار لعام 1972م. منذ الستينيات بدأت أعمال البحث والتنقيب والحفظ في الموقع ولكنها بقيت في إطار ضيق وبعيد عن الإعلام والأضواء. ورغم قلة الاعلان عن الدراسات التي اجريت في الماضي إلا أن الاهتمام بتلك الدراسات عاد أخيرا وتم بث وعرض لبعض البحوث والدراسات التي قام بها سعوديون وغيرهم، ومن اهم تلك البحوث السعودية عن الموقع ما قام به الدكتور الطلحي في عام 2003م وسرد فيه اكتشافه لكتابات لاتينية تعود لفترة ما بين 175 ـ 177م. وبدا التعاون بين كل من المملكة العربية السعودية وفرنسا في هذا المجال منذ اكثر من من خمسة وعشرين عاما، حيث تم توقيع اتفاق في عام 1978م تم بموجبه إرسال بعثة من معهد الجغرافيا الفرنسي للحصول على ست وثلاثين صورة جوية. لكن أول رحلة بحثية فرنسية منظمة لـ«مدائن صالح» تمت عام 1995م بناء على دعوة من بعض الجامعات السعودية، حيث نظمت الرحلة كل من وزارة الخارجية ووزارة التعليم العالي الفرنسيتين، وجمعت ممثلين لعدد من المعاهد المختصة والجامعات ومراكز البحوث الفرنسية، تحت إشراف ميشيل ريد Michel REDDE. هذا اللقاء الأول سمح بإطلاق النقاش العلمي حول التاريخ والآثار والنقوش الحجرية في الجزيرة العربية، وخاصة في «مدائن صالح»، ففي عام 1996م نظم معهد فيرناند كوربي Fernand Courby في ليون الفرنسية أول حلقة نقاش نشرت نتائجها في ملف مجلة «توبين» ثم في عام 1997م كانت هناك رحلة آثارية نظمتها كل من اليونسكو وسكرتارية الدولة للمتاحف والآثار الفرنسية بالتعاون مع إدارة المتاحف والآثار السعودية ووصلت لمدائن صالح في مدينة العلا بهدف تسجيل الموقع على قائمة التراث العالمي.

وحتى يصدر القرار من لجنة التراث العالمي في اجتماعها الذي سيعقد في غضون شهر يونيو 2008م بالموقف من طلب المملكة العربية السعودية بضم موقع «مدائن صالح» كأول موقع أثري سعودي على لائحة التراث العالمي، يبقى هذا المعرض الذي سيفتتح في مقر منظمة اليونسكو بباريس اليوم (الخميس) شاهدا على عظمة «مدائن صالح» وجدارتها بالانضمام إلى لائحة التراث العالمي.