المتحف البريطاني يستضيف محاربي التيراكوتا الصينيين

الامبراطور الأول رحل وترك محاربيه شهودا على عصره

يرجح الآثاريون أن يكون صانعو التماثيل قد اعتمدوا على السكان المحليين
TT

رغبة امبراطور صيني في الهرب من الموت أهدت العالم واحدا من أهم الكنوز التاريخية وأكثرها إثارة للدهشة والإعجاب. فالمعروف عن الإمبراطور الصيني كين شي هوانغدي الذي وحد أجزاء الصين القديمة وكون ما أصبح يعرف بالصين، نسبة الى اسمه، هوس الأبدية، فالامبراطور لم يترك دواء أو إكسيرا لإطالة العمر والحفظ من المرض إلا وذاقه، وبلغ به الأمر أن جند مئات الآلاف شعبه لخلق جيش كامل من المحاربين بلغ عددهم سبعة آلاف محارب مصنوع من الطين وذلك لحراسة قبره.

والامبراطور عرف بوحشيته الى درجة أن بلغ عقابه للمخالفين للقانون بأن يربط الشخص الى حصانين منطلقين أحدهما عكس اتجاه الآخر. ولكن تلك الصرامة خالطتها أيضا رغبة في العظمة والتميز، فهو قدم نظاما موحدا لمختلف الممالك في امبراطوريته واعتمد العملة والأوزان الموحدة لها. ولا يستغرب أن يكون الامبراطور كين شي هو من بدأ بناء سور الصين العظيم، فالرغبة والدافع للعظمة واضحة في ضخامة المشروع و صبغة اللانهائية فيه.

وعمل في تشكيل المحاربين ما يقرب من سبعمائة ألف عامل، البعض منهم مات خلال العمل والبعض الآخر دفن حيا مع الجنود.

وعندما قرر المسؤولون في المتحف البريطاني إقامة معرض «الامبراطور الأول: جنود جيش التيراكوتا» كانت الفكرة من ورائه ان يتعرف الجمهور على الامبراطور الصيني كين شي هوانغدي وأهمية هذا الامبراطور في التاريخ الصيني وإنجازاته التي طغت عليها شهرة جيش التيراكوتا. وقالت راعية المعرض، جين بورتال، للقناة الرابعة في التلفزيون البريطاني أثناء تصوير فيلم وثائقي عن خطوات إعداد المعرض، إن الامبراطور هو الهدف الأول من المعرض، ولكن تم التركيز في الحملات الدعائية على المحاربين وذلك لجذب الاهتمام وأيضا لأن المحاربين يمثلون جزءا مهما من مخلفات الامبراطور الأول. والمعرض كما تؤكد جين بورتال يعد بمثابة فرصة فريدة للجمهور لرؤية التماثيل عن قرب ومعاينتها، وهو ما لا يتوفر للزائر للمقبرة الملكية في مقاطعة شيان حيث يستطيع رؤية صفوف المحاربين من بعد فقط ولا يتسنى لغير كبار الزوار الاقتراب منها.

اهتمت جين بورتال بإقناع السلطات الصينية بإرسال اكبر عدد مكن من التماثيل الى بريطانيا، وهكذا تم التوصل الى إرسال 20 تمثالا، وهو اكبر عدد من التماثيل يغادر الصين للعرض الى دولة أجنبية. ولا عجب عندها أن تبلغ الإجراءات الأمنية أقصاها للمحافظة على تلك القطع الفريدة، فبلغ التأمين على كل منها مليونا ونصف مليون جنيه استرليني، ونقل كل منها في طائرة مستقلة حتى إذا ما تعرضت للضياع لا تفقد كلها، كما أرسلت الصين أربعة من خبرائها الآثاريين لمرافقة التماثيل والإشراف على عرضها.

وترى جين بورتال أن المعرض يأتي في زمن تتقدم فيه الصين بسرعة، وانه يعتبر فرصة لفهم جزء من تاريخ الصين.

وبلغت الاستعدادات أقصاها في المتحف البريطاني لتوفير أفضل الإمكانات للمعرض، فقد تم تحويل غرفة القراءة الشهيرة الدائرية بالمتحف الى قاعة استثنائية للعرض. وبدأ العمل بنقل خزانات الكتب وطاولات القراءة المستطيلة الى خارج القاعة استعدادا لتغيير القاعة. وتم بناء منصة مرتفعة على ارض القاعة لوضع التماثيل، كما وضعت لوحات ضخمة على الحوائط الدائرية للقاعة لتعرض عليها صور جيش التيراكوتا في موقعه الأصلي. وخلال عمليات التحضير الشاقة كان لا بد من إدخال كل القطع الضخمة عبر الباب الوحيد للقاعة بحذر شديد. وقد روعي الحذر الشديد في وضع تماثيل الجنود والأحصنة في الصناديق المخصصة لها، خاصة أن أحد الأحصنة قد كسر عند نقله للعرض في إحدى الدول الأوروبية في السابق. وتم وضع كل تمثال في صندوق خشبي مجهزة بقاعدة خاصة حتى إذا وضعت الصناديق بقوة على الأرض لا تصاب التماثيل بأذى. وخلال عملية اختيار القطع للعرض روعي أن تختلف الأشكال المختارة بحيث تضم الجنود والعربات والخيول والضباط برتب مختلفة والأسلحة المتنوعة، بل حتى أضيفت بعض القطع المكسرة ليتعرف الجمهور كيف جرى تصميم التماثيل وكيف تمت عملية تركيبها مرة أخرى.

والمعروف أن تلك التماثيل عند اكتشافها للمرة الاولى في عام 1974 كان مكسرة الى قطع عديدة واستغرق العمل فيها سنوات لإعادة تكوين كل منها. ولا يتشابه تمثالان منها، فالملامح تختلف من تمثال لآخر وتختلف حتى الملابس وغطاء الرأس، بل حتى طريق تصفيف الشعر. ويرجح الآثاريون أن يكون صانعو التماثيل قد اعتمدوا على السكان المحليين لتشكيل تلك التماثيل التي كما تقول الأبحاث كانت ملونة بألوان زاهية ولكنها تحللت مع مرور الوقت.

ولا يبدو أي تغيير في حالة التماثيل غريبا بأي شكل من الأشكال فهي ظلت مدفونة تحت الأرض على مدى 2000 عام، فبعض التماثيل يبدو من مظهرها وطريقة وقوفها والأيدي الممتدة أمامها الى أنها تمسك بزمام الأحصنة أو تقود العربات ولكن لا أحبال بقيت ولا عربات خشبية فقد تحللت كلها مع مرور الزمن. وما لم يدمره الزمن فقد استولى عليه اللصوص، فتماثيل الجنود كان كل منها يمسك بسلاح برونزي، نحو سبعة آلاف سلاح وجد اللصوص طريقهم اليها بعد وفاة الامبراطور وبقي الجيش واقفا يحرس سيده.

وبني الجيش من مادة التيراكوتا قبل أكثر من 2000 عام، وقام ببنائه 750 ألف عامل على مدى 47 عاما. وبدأ العمال العمل على هذا الضريح بعد أن تسلم الامبراطور الحكم مباشرة في مملكة كين، وهو ما زال في سن الثالثة عشرة.

ولكن الامبراطور الأول لم يكتف بالأعداد الغفيرة من الجنود الطينيين لحراسته، بل أراد أيضا أن يرفه عن نفسه في الحياة الأخرى فأمر بصنع تماثيل للمهرجين والمغنين ولاعبي الأكروبات بالإضافة الى تماثيل لكبار موظفي الدولة. وما زالت القطع تكتشف واحدة تلو الأخرى، وهو ما يجعل الموقع اكبر موقع اثري في العالم.

ويعتقد بعض المؤرخين الصينيين أن مقبرة الامبراطور التي لم تفتح بعد تحتوي على كنوزه، وزين سقفها باللؤلؤ والجواهر لتمثل السماء والنجوم كما يعتقد أنها تحتوي أيضا على أنهار من مادة الزئبق لتمثل انهار المياه. ولكن أيا من ذلك لا يمكن التأكد منه لأن الآثاريين يرجحون ألا تفتح المقبرة قبل مرور 100 عام لضخامة المشروع.

المعرض في المتحف البريطاني يضم أيضا عربة تجرها أحصنة يعتقد أن الامبراطور حمل فيها بعد وفاته، ويقال إن الخبر ظل مكتوما عن الجمهور. وحتى لا يشتم أحد رائحة الجثة خلال نقلها، وضعت كميات كبيرة من الأسماك معها لتختلط الرائحتان معا. ومع كل هذا الزخم التاريخي يتوقع المسؤولون في المتحف البريطاني أن يزداد الإقبال على زيارة المعرض الذي بيعت 100 ألف تذكرة له حتى الآن، وهو ما يجعله واحدا من أكثر المعارض إقبالا في المتحف.