الفنان الذي هرب من السياسة والاكتئاب إلى الفن

جانغ هوان.. ترجم الثقافة الصينية بلغة غربية، وأبناء بلده يتهمونه بالخضوع لمفاهيم دخيلة

من الأعمال الجماعية للفنان
TT

عندما افتتح معرض الفنون الصينية الجديدة في الجمعية الآسيوية في عام 1998، تسبب في ضجة كبيرة لأنه لبى ولم يلب في ذات الوقت توقعات الفنون المعاصرة القادمة من الصين.

كان المعرض مزدحما بكثير من صور ماو ولكنها كانت لماو خلف القضبان، ماو بألوان شعبية، ماو يمسك بزهرة بين اسنانه، كما كانت هناك لوحات خط، ولكنها كانت لوحات فوضوية: غير منطقية، الكترونية ومستخدمة لكتابة حروف بلا معنى.. لغة مزورة.

مثل هذه الأمور اعتبرت آنذاك دليلا على ثورة ثقافية كان الاميركيون على استعداد لتقبلها، مجموعة من الفنانين الشباب المنشقين الذين يتحدون الماضي الامبراطوري والحزب الشيوعي في محاولة لتنفس الهواء الديمقراطي. كما أكد استخدام الفنانين لأشكال غربية ان الغرب قد انتصر مرة أخرى، وإن لم تؤكد كل المعروضات وجهة النظر تلك. فقد كانت هناك صورة من بين الصور لا تبدو غربية بوضوح ولا صينية، مجرد صورة غريبة: صورة لرجل عار، شعره نصف محلوق، يجلس في مساحة مثل السجن. جلده مبلل يغطيه الذباب.

والصورة هي للفنان الصيني جانغ هوان، وتسجل اداء فرديا قدمه في عام 1994، عندما كان في التاسعة والعشرين من عمره في بكين. في ذلك الوقت، كان جانغ الذي أتى من أسرة ريفية في وسط الصين، مقيما في بكين لأكثر من ثلاثة سنوات، وحصل على درجة جامعية في الفن ولكنه لم يعرف ماذا يفعل عقب ذلك، فيما كان الفنانون الأكبر سنا، بمن فيهم هؤلاء الذين رسموا صور ماو، بدأوا في جذب انتباه الغرب في اعقاب «احتجاجات ميدان تيان آن مين، بالرغم من ان قلة منهم شاركت في تلك الاحتجاجات. ولم يكن جانغ طرفا: فهو ليس شخصية مسيسة، وكان يرغب في العثور على بديل للرسم.

انتقل الى منطقة ليست إلا أكثر من مقلب للقمامة في أطراف المدينة ـ يطلق الفنانون الذين يعيشون هناك عليها القرية الشرقية، اشارة الى المنطقة التي تحمل نفس الاسم في نيويورك ـ حيث كان يستمع الى كورت كوبين وأصبح مكتئبا. ولكنه اقام علاقات مع عدد آخر من الفنانين. وعندما لم تكن لديه أية موارد أخرى، كان يلجأ لاستخدام جسده وأجساد الفنانين كأدوات لفنه.

تميز أداؤه المنفرد بالمازوخية، أما الأداء الجماعي فقد كان اكثر هدوءا. وقد أصبح فن جانغ فنا «صينيا» بطريقة يمكن للغربيين فهمها عندما زار الولايات المتحدة في عام 1998 لأداء فردي في مركز الفنون المعاصرة. والعمل الذي اداه كان بعنوان «الحج: الريح والماء في نيويورك،» عقد حول سرير صيني تقليدي به كتل من الثلج بدلا من المرتبة. وسار عبر ساحة المركز تصحبه موسيقى من التيبت، وهو يركع على الطريقة البدوية حتى وصل الى السرير. ثم خلع ملابسه، ورقد على بطنه فوق الثلج، وظل لمدة 10 دقائق. وعندما لم يتمكن من تحمل الثلج مرة اخرى، جلس وواجه الجمهور، وانتهى العرض.

ويتهم النقاد، خصوصا في الصين، الفنانين المهاجرين بالخضوع للمفاهيم الغربية عن الصينيين. ومن السهل رؤية كيف أن اداء مثل هذا، بملاحقه الاستشراقية، يمكن أن يوضح موقفهم. ولكن شأن جميع أفضل اعمال جانغ، فان «الحج» تتفادى التظاهر عبر أن تكون مباشرة وبسيطة وعبر طرح أسئلة بدلا من التصريحات. ويبدو انها تتساءل عن كيف يمكن لشخص أن يترجم نفسه من ثقافة معينة قوية الى ثقافة أخرى، وهل يمكن أن يذوب في ثقافة جديدة أو انه يتعرض الى الإقصاء؟ وهل يمكن أن يتخلى عن الثقافة التي جاء منها أو يجد نفسه متماثلا معها بصورة اقوى مما كان عليه في السابق؟

وتتمتع هذه الأسئلة بأهمية شخصية بالنسبة لجيانغ بعد أن أعاد اقامته في نيويورك في العام ذاته. انها مواضيع راهنة للفن الذي ابدعه هنا وتجري معالجتها على نحو بليغ في أعمال مثل «نصف» عام 1998، و«شجرة العائلة» عام 2000. وهاتان القطعتان هما جوهريا أداءان للكاميرا، ولكن بينما يكون جسد جانغ هو الصورة الرئيسية، فان الفعل، وهذا سيصبح صادقا على نحو متزايد، ينجزه المساعدون.

وبالنسبة لعمله «شجرة العائلة» طلب من ثلاثة خطاطين صينيين ان يكتبوا مباشرة على وجهه ويحلقوا الرأس الى ان تجري تغطية البشرة. وكان ما كتبوه، من حكايات شعبية وقصائد وأسماء صينية، اقل أهمية من حقيقة ان الخصائص المرسومة بالحبر حجبت سماته تدريجيا. وفي آخر الصور الفوتوغرافية التسع يكون وجهه أسود بالكامل، كما لو أنه تعرض للإزالة أو الاستيعاب الكامل من جانب اللغة.

واذا كانت الصورة تعتبر فعالة فان هناك بعض الارتياب بشأن أصالتها. من ناحية الشكل فانها منتحلة من عمل فنان آخر هو كوي جيجي الذي ابدع قطعة عام 1986 تحت عنوان «كتابة مقدمة سرادق الأوركيا ألف مرة»، وكانت تعتمد على استنساخ قطعة خط بالحروف شهيرة مرة تلو اخرى على الورق الى ان يكون السطح اسود. واستخدام جانغ لجسده كسطح يجسد المفهوم ولكن وجوده الكاريزمي ليس ضمانا للنجاح.

والأداءات اللاحقة التي يقدمها في المتاحف هنا وفي الخارج، وغالبا ما تعني عددا كبيرا من المشاركين، تبدو، على الأقل في الفيديو، مبتذلة، وتعتبر «نيويوركي» استثناء من ذلك. ارتدى جانغ بدلة عملاق فضفاضة مصنوعة من اللحم النيئ وأطلق حمامات من الأقفاص، وهي اشارة بوذية الى الحنو، في الشارع امام متحف ويتني للفن الأميركي. وارتباطا بالحادي عشر كان التأثير حادا ونقيا وشبيها الى حد كبير بتلك اللحظة.

ويبدو ان اهتمامه بالبوذية، وهي دين طفولته، قد تزايد بتناسب مباشر مع عدم ارتياحه من الحياة في الغرب. في عام 1996 عاد الى الصين، وكان التوقيت جيدا، حيث اصبح الفن الصيني صناعة مزدهرة وهو ما لم يكن ممكنا تخيله قبل عقد من الزمن. ويتمتع بعض الفنانين، وهو واحد منهم، بشهرة فناني الروك هنا. ولا تعتبر صناعة الفن على نمط الفن المنتج في المصانع جديدة بالنسبة للصين أو للغرب. كما انها ليست بعيدة عن سيرة جانغ الفنية كما قد يبدو. فقد ظل فنه على الدوام فنا تعاونيا. وحتى الأداء المنفرد كان يعتمد على مساعدين ومصورين. وبعض نصبه الجديدة تتمتع بالبساطة والايحاء مما جعل العروض التمثيلية الأولى جديرة بالتذكر. ومن بين الأعمال الجديدة أياد وأقدام عملاقة من النحاس، ونسخ مكبرة لشظايا من شخصيات بوذية وجدت في التيبت. والقطعة الأكبر في العرض رأس ضخم يجمع بين سمات بوذا والصورة الذاتية للفنان، وقد صيغ ذلك من رماد البخور الذي اخذ من المعابد.

وستشهد نيويورك المزيد من أعماله قريبا ما دام جانغ قد انضم اخيرا الى مجموعة بيسوايلدنشتاين غاليري. اما بقاؤه هناك فأمر غير معروف، ذلك انه تخلى عن عدد من التزاماته مع معارض اخرى في السابق، وبرهن على انه ليس من النوع المستقر. ومن بين كل المتمردين «الداخلين والخارجين» الذين يشكلون الآن مؤسسة الفن الصيني الجديد يبقى واحدا من الشخصيات التي يصعب تحديدها بوضوح.

* خدمة «نيويورك تايمز»