هل تحتاج الشوارع الإنجليزية إلى جامع «سبارس»؟

قانون الحظر حولها إلى منفضة سجائر كبيرة

قانون حظر التدخين فى الأماكن المغلقة حوّل شوارع لندن إلى غابة من أعقاب السجائر (رويترز)
TT

عندما تسمع لفظ «اعقاب السجائر» تتداعى أمامك مشاهد ربما تعكس ثقافتك ونشأتك وتكوينك، وربما تفضح طبيعة تفكيرك، وقد تثير عذاب ضميرك. فقد تكون ممن سرقوها خلسة في طفولتهم من أبائهم ليجربوا عالم الذكورة الذي تعتبر السيجارة من أشهر ملامحه، وقد تكون ممن جار عليهم الزمان ومارسوا مهنة جمع أعقاب السجائر التي كانت من المهن المتدنية في سالف العصر والأوان في بعض العواصم العربية. وقد خصها رائد الدراما التلفزيونية أسامة انور عكاشة في مطولته «ليالي الحلمية» بأجزائها الخمسة، وافرد لها شخصية رئيسية هي شخصية «الخُمس» جامع «السبارس»، بحسب التعبير الدارج في مصر في فترة الأربعينات من القرن الماضي. يقفز هذا «الخُمس» إلى ذهني أثناء التجوال في شوارع لندن، التي تحولت إلى منفضة سجائر كبيرة، ففى كل الأركان وبشكل يعكس عدم اكتراث الشعب الإنجليزي بالنظافة، تجد أعقاب السجائر متناثرة على أرضية الشوارع، رغم وجود مواضع مخصصة لذلك، ورغم الغرامة الفورية التي نص عليها القانون الإنجليزي، والتي تصل إلى نحو 80 جنيها إسترلينيا في حالة التلبس بإطفاء سيجارة في الشارع.

وقد أرجع خبراء تزايد نسبة (أعقاب) السجائر في الشوارع البريطانية إلى قرار حظر التدخين في الأماكن المغلقة، الذي طبق في الأول من يوليو (تموز) الماضي، والذي جعل الشوارع ملاذ المدخنين، ومكانهم الآمن لممارسة عادتهم التي لا يتوقع أن يتوقفوا عنها مهما زاد الحظر والحصار، فالقانون لم يفلح مع المخدرات، ولن ينجح مع التبغ.

وهناك بالطبع شركات متخصصة مسؤولة عن مهمة نظافة الشوارع في بريطانيا، وبعد متابعة أداء الشركة الموكل لها هذه المهمة، التي ينتشر عمالها بسترهم الفسفورية المميزة وهم يجرون عربات يد مجهزة بوسائل تساعدهم على أداء المهمة «المستحيلة»، والتعبير لأحدهم الذي قال في يأس «النظافة أمر مستحيل في ظل هذه السلوكيات المحبطة، نحن منتشرين في كل الشوارع ونمارس عملنا طوال اليوم، ومع ذلك تشعر وكأننا لا نقوم بعملنا على خير وجه»، وعن مشكلة اعقاب السجائر علق ضاحكاً «أنها مأساة منذ يوليو الماضي، فلقد خرج الجميع إلى الشوارع للتدخين، ورغم وجود مكنسة مخصصة لجمع هذه الأعقاب موجودة مع معظم الزملاء، لكن طبيعة الأرض لا تساعد، فهذه أعقاب مزعجة تهرب بين فوارق الطريق، وتحتاج إلى جهد مضاعف، كما أنها غير مفيدة، لأنها تزعجنا أيضا بعد جمعها». وطلب مني سيجارة وأشعلها، ليكمل حديثه وهو يستعد للتحرك «إن الأمر اكبر من أعقاب السجائر، انظر إلى هذه البقع السوداء التي تلطخ كل الأرصفة، وتجعلها مثالاً للقبح، انها «العلكة» عدونا الرئيسي الذي فشلت كل الجهود للتخلص منها، واضطرت الحكومة لاتخاذ إجراءات للتخلص منها ولكنها فشلت».

يبدو ان مشكلة الشوارع الإنجليزية أكبر من شركات النظافة ذاتها، وربما تحتاج إلى متخصص في جمع «السبارس»، ليدخل إلى قوائم المهن الجديدة في نظام العمل البريطاني، فقد يكون «الخُمس» حلا مثاليا للقضاء على هذه الصورة السيئة.

وتعرف السبارس بأنها أعقاب السجائر، ويقال للشخص «سبرسجي»، لأنه من شدة فقره، يقوم بجمع أعقاب السجائر من الأرض وتدخينها، وربما لهذا تنتشر أعقاب السجائر في لندن دليلاً على الغنى. مقارنة بالقاهرة مثلا، التي ما زال هناك من تمثل له هذه الأعقاب ثروة كبيرة وهم أطفال الشوارع.

وقد عرفت شوارع القاهرة هذه المهنة قديماً، وكان السبرسجي يمسك عصا طويلة تنتهي بمسمار ليلتقط بها أعقاب السجائر ويجمعها في علبة صفيح، وكان يتقاضي اجره عن كل علبة ممتلئة، وكان يتفنن في اختيار أماكن نشاطه، مثل محطات الأتوبيس والقطارات فهي بالنسبة له مواقع إستراتيجية، حيث ان روادها يكونون في أغلب الأحوال متلهفين للحاق بها، فينهون تدخين سجائرهم بسرعة تاركين نصفها أو اكثر، وهذا يعتبر مكسبا كبيرا له.

وقد بلغ من شهرة هذه المهنة ودلالتها على فقر المشتغل بها، إلى حد أن الموسيقار المصري الكبير سيد درويش قام بالغناء لها في أغنية عرفت في عشرينات القرن الماضي بعنوان «لمامين السبارس»، قام فيها كعادته بالنقد اللاذع لأغنياء زمانه الذين يضنون على الفقراء، ويدخنون سجائرهم حتى النهاية متناسين ان وراءهم «سبرسجية» يحتاجون الى جزء منها.

وقد تصاب العديد من العواصم الأوروبية الأخرى بنفس المشكلة قريباً، بعد ان انتقلت عدوى قوانين حظر التدخين إليها، فقد أعلنت شركة السكك الحديدية التابعة للدولة في النمسا فرض حظر على التدخين بجميع قطاراتها، اعتبارا من أول سبتمبر (أيلول) الماضي، بهدف حماية غير المدخنين، وقد كان الحظر مفروضا بالفعل في القطارات المحلية، ولكن تم تعميم الحظر على كافة القطارات بناء على طلب الركاب. وقد رحبت وزيرة الصحة النمساوية بالقرار، في الوقت الذي تدرس فيه فرض حظر التدخين في المطاعم والمقاهي بحلول عام 2008، تماشيا مع الموضة الاوروبية في هذا الصدد. ويجرى فرض حظر كامل أو جزئي على التدخين في أغلب الدول الاوروبية بعد أن بدأت ايرلندا عام 2004 بفرض الحظر على المطاعم والحانات. وتضم قائمة أحدث الدول الاوروبية التي انضمت لقافلة حظر التدخين في 15 أغسطس (آب) فرنسا وسلوفاكيا والدنمارك.

أما في ألمانيا، فقد أصبح لزاما على المدخنين فيها أن يتخلوا عن السيجارة أثناء استقلالهم للقطارات والحافلات وسيارات الاجرة في ألمانيا وحظر القانون الألماني التدخين في جميع الهيئات والمحاكم. ولكنه يسمح بإعداد غرف منفصلة للمدخنين.

ومن المفارقات في حمى الحظر، ما تتردد أخيرا عن نية أكبر ولاية في استراليا حظر التدخين في سجونها، كما هي الحال في مكاتب وحانات وفنادق ومطاعم الولاية. حيث يقدر عدد المدخنين في سجون ولاية نيو ساوث ويلز ثمانية من بين كل عشرة نزلاء. وقد بدأت الجماعة المدافعة عن حقوق النزلاء «حركة العدالة»، بتنظيم حملات نيابة عنهم للتصدى لأى حظر محتمل، بحسب وكالة الأنباء الألمانية. وقال المتحدث باسم الحركة إن «المعتقلين يجدون في التدخين سبيلا للاسترخاء، وحرمانهم منه يعني الاضرار بصحتهم العقلية. كما يعني حظرها خلق سوق سوداء للتبغ يتم تداوله فيها كما هو الحال بالنسبة للمخدرات الاخرى».

وأضاف «أن حظر التدخين في أماكن العمل يختلف تماما عنه بالنسبة للسجون، وذلك لأسباب واضحة منها أن المدخنين يستطيعون الخروج من مكاتبهم لإشعال السيجارة في مكان آخر بينما يستحيل ذلك على السجناء».