عبادة.. وغناء

«الزورخانة» أقدم بيت للقوة في العالم.. يرحب بالمصارعين ويحرم النساء من دخوله

يشارك بعض الاطفال والمراهقين في جلسات الزورخانة لكن أغلب المشاركين في جلساتها رجال في منتصف العمر (أ.ب)
TT

هي بمثابة مسجد ثان، وبيت ثان، وحلبة مصارعة ومكان للتعارف الاجتماعي ومكان للتعبد وقراءة الادعية الدينية والتوسل الى الله. لم تفقد «الزورخانة»، كل هذه الابعاد منذ عرفها الإيرانيون، كما يعتقد خلال الاحتلال المغولي لايران. عادت مراكز الزورخانة للازدهار في إيران، وفي هذه المراكز تمارس 7 أنواع من الرياضة، باستخدام السهم والرمح والحربة والدرع، غير ان الزورخانة مكان للتعبد ايضا، وممنوع عليه حتى أنفاس النساء. وتاريخ هذه الظاهرة الاجتماعية الدينية الرياضية الثقافية ليس واضحا. فهناك من يقول ان تاريخها يعود الى 3000 عام، وهناك من يقول انها تعود الى الوقت الذي احتل فيه المغول بلاد فارس. فالمغول كانوا يمنعون ابناء البلاد التي يدخلونها ممارسة اي أنشطة رياضية قد تؤدي الى تعزيز روحهم المعنوية وقدراتهم البدنية والروحية، لذلك كانوا يغلقون اي مراكز او بيوت تمارس فيها أنشطة رياضية. لكن الايرانيين عمدوا الى بناء «الزورخانة» سرا. وكلمة «زورخانة» مستمدة من كلمتين، «زور» وتعني القوة و«خانة» وتعني البيت، اي «بيت القوة». تم بناء العديد من مراكز الزورخانة في اصفهان ومشهد وطهران انذاك، وكان التردد عليها سرا وانشطتها سرية، خوفا من رد فعل الحكام المغول. ولان هدفها كان اعداد الشباب بدنيا وروحيا لقتال المحتل، امتزج البدني بالديني والروحي، فكان المترددون على الزورخانة يبدأون طقوسهم بقراءة القرآن الكريم، ثم تلاوة الادعية، ثم ينشغلون بتدريباتهم الرياضية، وعند الانتهاء منها، يختتمون بمزيد من قراءة القرآن الكريم، ومزيد من الغناء الصوفي، والدوران حول النفس. ومن ساعتها ظلت هذه النوادي عامرة بالزائرين، وتطورت واتسعت مساحتها مع الوقت، وعادت مؤخرا للازدهار في طهران وغيرها من المدن الايرانية، مثلما تزدهر الكثير من الممارسات الفلكورية القومية في ايران حاليا.

وبالتدريج اتسعت أهداف ممارسي الزورخانة من محاربة المعتدين او المحتلين، الى مساعدة الفقراء والمحتاجين، ثم بعد مغادرة المغول ايران، تركزت انشطة الزورخانة على الممارسة الرياضية الى جانب انشطة روحية واخلاقية، كما حافظت على كونها مكانا للرقص الصوفي والصفح. وكان يتم اختيار اقوى الرجال في المكان، ثم يطلق عليه اسم «بهلوان» لقيادة الانشطة الرياضية في المكان. ويبدأ المصارعون الذين يرتدون سراويل تقليدية مزركشة جلسة الزورخانة، بدخول الحلبة ذات الشكل المثمن والركض حولها للاحماء ثم يبدأون بعد ذلك اداء سلسلة من الحركات المنسقة.

اما الانشطة الرياضية، فتجد واحدا من المصارعين يدور حول نفسه واخرين واقفين حوله في دائرة، ومصارعا يرفع درعا من الخشب يستخدم كنوع من الاثقال، ومصارعا يقذف هراوات كبيرة في الهواء ويلتقطها، ومصارعين يتدربون برفع الهراوات فوق أكتافهم. واخرين يستخدمون السيف والدرع في تدريباتهم. لكن هذه الانشطة تمتزج بالرقص، فممارسوها يدورون حول أنفسهم على إيقاع الطبول وهم يحركون ببراعة ورشاقة بين اصابعهم الهراوات الخشبية او السيوف والرماح. وتلعب الزورخانة أيضا دورا اجتماعيا من خلال التقاء الرجال الذين يمارسونها في النوادي لتجاذب اطراف الحديث وتناول الشاي قبل بدء الجلسة.

وتزين حوائط «الزورخانة» صور للزعماء الدينيين المسلمين والابطال الاسطوريين في الفترة السابقة على الاسلام، الى جانب صور فوتوغرافية لمصارعين عراة الصدور، ومن بين صور الابطال الموجودة في زورخانة طهران صورة لبطل الزورخانة الايراني الراحل غلام رضا تختي. وينشد قارع الطبول في جلسات الزورخانة في طهران أشعارا كتبت قبل قرون لجلال الدين الرومي والفردوسي وسعدي وحافظ وعمر الخيام وغيرهم. ويشارك بعض الاطفال والمراهقين في جلسات الزورخانة، لكن أغلب المشاركين في جلساتها رجال في منتصف العمر في اشارة محتملة الى أن الشبان الايرانيين الشغوفين بكرة القدم لا تجتذبهم بسهولة تلك الطقوس القديمة.

وللموسيقى أهمية كبيرة في جلسات الزورخانة، خصوصا الطبل والمزمار، وهما آلتان موسيقيتان مهمتان جدا في إيران. وقال مصدر إيراني لـ«الشرق الاوسط»: «للطبلة بالذات طقوس خاصة، فلكي تحصل على الصوت المطلوب لا بد ان يكون جلد الطبلة ساخنا بدرجات معينة. المسؤول عن الطبلة يضع فوقها مظروفا من النار، اي تكون النار على شيء سميك بحيث تسخن جلد الطبلة من دون ان تحرقه، وعندما يسخن جلد الطبلة للدرجة المطلوبة، يبدأ العزف»، موضحا ان جلد الطبلة يكون غالبا من جلد البقرة او الحصان. ويشير المصدر الايراني الى ان رياضة الزورخانة في ايران لم تشهد شخصا مثل بورياي ولي، الذي يعد أشهر أبطال الزورخانة في إيران، وأضاف موضحا ان بورياي ولي من الذين وضعوا قواعد الزورخانة، ومنها بدء الجلسة بقرأءة ابيات شعرية، وآيات من القرآن الكريم. وبالنسبة للرجال الذين يمارسونها هي ليست مجرد رياضة للياقة البدنية وانما أيضا للاتصال الروحي. وتشهد «الزورخانة» عودة على استحياء في ايران بعد أن كانت على مر التاريخ مصدرا لابطال رياضة المصارعة. وتبدو هذه الرياضة في عيون الغربيين مزيجا غريبا من كمال الاجسام وتمرينات اللياقة البدنية. وقال المصارع ناصر الدين نخائي الايراني لوكالة رويترز «الزورخانة رياضتنا الدينية والقومية.. رياضتنا القديمة مستوحاة من معتقدات دينية وتبني كلا من الجسم والروح». ويقول البعض ان الزورخانة ساهمت في نشر المصارعة في ايران وهي رياضة تتمتع فيها ايران بسمعة دولية طيبة. غير أن المصارعة رياضة عادية مقارنة بالزورخانة.

وذكر نخائي انه رغم تراجع شعبية الزورخانة بعدما بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر الفارسي فقد بدأت تعود الى الوجود مجددا. وقال «هذه الرياضة يجب أن تنتقل الى أبنائنا وأحفادنا. نأمل في أن تصبح رياضة دولية». ويقول محبو تلك الرياضة المعروفة أيضا في بلاد مجاورة، انها تهدف لتنقية واصلاح النفس ليصبح ممارسوها أخيارا يساعدون المحتاجين، وذلك فضلا عن اكتساب اللياقة البدنية. وتؤكد الزورخانة ولع الايرانيين بالرياضات التي تقوم على القوة البدنية. ولا تشترك النساء في جلسات الزورخانة، بل ان أنفاس النساء ليس مسموحا بها في «الزورخانة»، فلا يحق لهن الوجود بأي شكل من الاشكال، لان هذا مخالف لتعاليم هذه المدرسة «الروحية – الرياضية – الموسيقية»، التي لا يوجد لها مثيل في العالم.

ويقول بطل المصارعة المتقاعد مصطفى طاجيكي، الذي خاض منافسات الدورة الاولمبية في روما عام 1960 لرويترز: «هنا في قاعة الزورخانة مسجدنا الثاني. نحن نصلي هنا. نصلي كلنا معا». ويتدرب طاجيكي، 77 عاما، حاليا مرتين في الاسبوع بقاعة الزورخانة. وتستمر الجلسة زهاء ساعتين وتختتم بالادعية. ولا تقتصر ظاهرة الزورخانة على ايران، فهى موجودة في الهند وباكستان وافغانستان وتركيا والعراق، الا ان انتشارها لم يعد كما كان في الماضي، لكن في ظل اعادة الاعتبار للكثير من الممارسات الفلكورية القديمة، يجد هذا التقليد الاجتماعي الديني الرياضي الثقافي متنفسا جديدا.