أول متحف للهجرة يفتح أبوابه في باريس

الحقائب الخشبية للعمال ما زالت تدل على عذاباتهم

TT

حين قررت العروس التونسية فاتنة، في شتاء 1961، أن تلحق بزوجها العامل المهاجر الى فرنسا، أعطتها حفصية، حماتها، بطانية مخططة من الصوف الذي يحاك محلياً وقالت لها: «إن فرنسا باردة وعليك أن تتغطي بهذه البطانية لئلا تمرضي». اليوم يمكن لزائر «متحف الهجرة» الذي فتح أبوابه في باريس، أمس، أن يشاهد تلك البطانية العتيقة الملونة والى جوارها صورة لفاتنة وزوجها وأبنائها وأحفادها.

هذا المتحف الجديد المقام في القصر القديم لمتحف الفنون الأفريقية، على تخوم غابة فنسان في الدائرة 12 من باريس، هو مكان للذاكرة قبل أي شيء، وهو أيضاً نصب تقديري لكل اولئك الرجال والنساء المجهولين الذين ساهموا في بناء فرنسا الجميلة والمتحضرة والقوية منذ قرنين من الزمان.

هنا تجمعت نماذج من صور ولوحات وتذكارات وصحف وكتب تروي عذابات وأفراح عائلات كاملة جاءت من اسبانيا والبرتغال وروسيا وأفريقيا والمغرب العربي وشرق آسيا وتركيا، بحثاً عن أرض آمنة ولقمة خبز كريمة، أو عن تجارة رائجة وفنون تلقى تقديراً.

في إحدى الخزائن، نرى منشفة وسروالاً قصيراً وملعقة آلة صدئة للحلاقة وكتاب للديانة الهندوسية جاء بها معه من الهند، عام 1972، مهاجر يدعى ناداراجان، من مواليد «كاريكال: التي كانت مستعمرة فرنسية، وحلّ في منطقة «بريف لاغايارد» لكي يلتحق بدورة للسباكة. وهو ما زال يمارس المهنة في ضواحي باريس.

على يمين المدخل تستقبلك جدارية من النحت البارز أنجزها الفنان هونوريه دومييه عام 1852 بعنوان «الهاربون»، وهي تصور رجالاً يسيرون محدودبي الظهور نحو وجهة غير محددة. إنها واحدة من أعمال هذا الفنان الذي تخصص في رسم موضوعات الهجرة والرحيل.

* أطروحة ماري كوري بين الصور الفوتوغرافية الكثيرة التي توّثق لحياة المهاجرين واحدة لشاب أفريقي كبس قنينتين فارغتين من قناني المياه المعدنية وصنع منهما نعلين ربطهما الى قدميه المحروقتين من لهيب رمال الصحراء. لكن الرجال الذين تركوا الأوطان، مرغمين، لم يأتوا من أفريقيا فحسب، بل هناك عشرات الصور لمواطنين إسبان يخيمون على الحدود المؤدية الى فرنسا بعد سقوط النظام الجمهوري في اسبانيا في شتاء 1939. لقد سلك مليون مدني إسباني دروب المنفى، وها هي صورهم ترينا نساء ملفوفات بالأغطية، ورجالاً يدخنون بقلق وهم لا يعرفون المصير.

في خزانة مضاءة بالنور، يرى زائر المتحف النسخة الأصلية لاطروحة الدكتوراه عن العناصر المشعة التي تقدمت بها الطالبة البولونية ماري كلودوفسكا الى جامعة السوربون في باريس. وهي الطالبة التي التقت باستاذ فرنسي في الفيزياء يدعى بيير كوري وأحبته وتزوجته وصارت تحمل اسمه. ونالت ماري كوري جائزة «نوبل» مرتين، مع زوجها.

نقرأ ما تكتبه حفيدتهما هيلين لانغفان عنهما: «لقد جاءت جدتي ماري مع شقيقتها لكي تدرسا في السوربون ثم تعودا الى بولونيا. لكن ماري لم تعد لأنها تعرفت على جدي بيير وغيّر اللقاء مجرى حياتيهما.

ما يكتشفه الزائر بدهشة هو أن أوائل الهجرات الى فرنسا كانت من بريطانيا، فقد كان الانجليز أكثر تفوقاً في اللحاق بالثورة الصناعية التي حدثت أواسط القرن التاسع عشر، وهم الذين أدخلوا الى فرنسا صناعات حديثة أبرزها معامل الحديد والصلب. وكان اولئك المهاجرون خليطاً من مهندسين وعمال مهرة وصل عددهم الى 70 ألفاً واليهم يعود الفضل في انشاء الصناعات المعدنية وبناء السكك الحديد.

* فوز على يد ميمون وزيدان وطبعاً، تدين فرنسا بالكثير من ميدالياتها الرياضية لأبطال من المهاجرين أو أبنائهم. وفي إحدى الخزانات الزجاجية وضع الحذاء الرياضي للعداء الاسطوري علي «آلان» ميمون عكاشة، ابن وهران الجزائرية المولود عام 1921 والذي هاجر الى فرنسا والتحق بالجيش وقاتل في حرب تحرير ايطاليا. وهذا العداء يحمل ثلاث ميداليات فضية اولمبية، وهو الذي حقق النصر لفرنسا في ماراثون ملبورن عام 1956. والى جوار أعداد أغلفة الصحف التي تشيد بميمون غلاف «باري ماتش» الصادر صيف 1998 حاملاً صورة اللاعب الجزائري الأصل زين الدين زيدان ومعه عبارة «شكراً زيدان». في زاوية العبادات والأديان المختلفة للمهاجرين، مجموعة من الصور والكتب والحاجيات التي تعكس تعدد انتماءاتهم. وهناك صورة ملونة لضريح الراقص ومصمم «الباليه» الشهير رودلف حميدوف نورييف (1938 ـ 1993). لقد دفن نورييف في فرنسا وغطي تابوته ببساط قوقازي.

والحقيقة أن للمهاجرين من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق حصة كبيرة من المتحف. وهناك «البيت الروسي» في ضاحية باريس الذي كانت قد شيدته ابنة آخر سفير لروسيا القيصرية في فرنسا وجمعت فيه تراث قومها المهاجرين. ثم تحول البيت الى دار للمسنين الروس، وزاره الكاتب سولجنستين لمقابلة عدد من الضباط السابقين عندما كان يجمع مادة لكتاب له.

والموسيقيون المهاجرون والمنفيون لهم موقعهم في المتحف. وهناك ملصق لحفلة قدمها المغني اليهودي المولود في الجزائر أثناء الاستعمار الفرنسي، أنريكو ماسياس، في صالة «اولمبيا» بباريس، عام 2000، وكتب على الملصق بالعربية: «تشريفاً للشيخ ريمون». وريمون كان أحد كبار الموسيقيين اليهود الذين لقوا حتفهم في الجزائر، وهو والد زوجة ماسياس.

وبين صور السيارات المحملة حتى آخرها بحقائب المهاجرين، وبين العديد من النماذج الحية لتلك الحقائب الخشبية البائسة، تتوزع صور مظاهرات المتسللين غير الشرعيين وصور اعتصاماتهم في الكنائس، وهم يطالبون الدولة الفرنسية بتسوية أوضاعهم. لقد ولى الزمن الذي كان فيه العامل المهاجر عملة مطلوبة وحل زمن طرد المهاجرين وإقامة الحواجز في وجوههم ودفعهم لقمة سائغة لأسماك البحار، قبل أن تطأ أقدامهم الحافية أرض البلد السعيد.