هكذا صارت لوس انجليس عاصمة «الدنيم» الفاخر

من مشروع صغير إلى شركة متخصصة تبيع الجينز بسعر 1200 دولار

TT

اصحبت لوس انجليس عاصمة «الدنيم الفاخر» في الولايات المتحدة. ومع كل خطوة في عملية صناعة جينز، يتراوح سعره ما بين 200 الى 300 دولار، تطرح أسئلة متشعبة عن السر وراء نجاح لوس أنجليس في الاحتفاظ بمكانة متقدمة في صناعة الدنيم في وقت اتجهت فيه رؤوس الأموال إلى خارج الولايات المتحدة؟

عند النظرة الأولى تبدو شركة «بريد دينم»، وهي شركة لصناعة الملابس في تلك المنطقة الصناعية من لوس انجليس، مجرد وميض في قطاع الازياء، شركة ناشئة تستغل اتجاهات الموضة بلا مستقبل. ويتكون مقرها من مكتبين، طاولة اجتماعات وطاولة للملابس، كلها موجودة خلف تقسيم في مكتب تشارك فيها مع شركة اكبر. ويعمل بها ثلاثة عمال.

خطة عملها؟ صناعة جينز سعره 200 دولار من القطن العضوي ـ ليس في آسيا ولا في اميركا اللاتينية، حيث تصنع معظم بنطلونات الجينز، ولكن في وسط مدينة لوس انجليس نفسها. ويقول جاسون فارو، مؤسس الشركة «دخلنا هذا المجال ونحن على علم باحتمال فشلنا».

ولكن قصة بريد دنيم ـ التي تعتبر قصة قطاع الدنيم الفاخر ـ هي اكثر ضمانا مما يبدو.

والسبب وراء العدد المحدود من الموظفين الذين يعملون لديه هو انه يكلف جيشا صغيرا من خبراء الدنيم بأعماله. فالشركة الموجودة في لوس انجليس التي تخيط الجينز كانت تخيط الجينز لجيس وكالفين كلاين. والمغسلة التي تغسل وتصنفر الجينز بالرمال كانت تقوم بنفس المهمة لبيبي جينز وتومي هيلفيغر. وكل شيء بخصوص قطاع الدنيم الفاخر، التي بدأت يتأصل هنا في عام 2000، يبدو وكأنه مثل الشركات التي تظهر وتختفى بسرعة ـ شركات مثل انتيك ونودي وايفيسو ومونارك ـ الى موديلات يصل فيها سعر الجينز الى الف دولار. ولكن المجالات الجديدة اصبحت متجذرة في هذه المدينة ذات التاريخ العريق في ما يتعلق بالجينز، مستفيدا من شبكة كبيرة من المصممين اصحاب الخبرة، والخياطين ومحلات الغسيل وشركات استيراد الاقمشة في اواخر السبعينات والثمانينات ـ موديلات مثل غيس وهيليفغر ـ ثم تفشل عندما نقلت مثل هذه الشركات صناعة الجينز الى الصين واميركا اللاتينية.

وشركات الجينز الفاخر مثل «بريد»، جمعت جوانب هذا القطاع وطورت الاجهزة المستخدمة ليصبح قطاعا قيمته 400 مليون دولار وتعمل به 100 شركة.

ويمكن القول، كما يقال دائما في لوس انجليس، ان قطاع الدنيم الفاخر لم يكن ليحدث أو يتطور في أي مكان آخر. او كما يقول فيرو «كانت البنية الاساسية موجودة. كل ما حدث اننا استخدمناها لشيء آخر».

وتقدم لوس انجليس أمرا آخر مهمّا بالنسبة لشركات الدنيم الفاخرة: ألا وهو الشهرة. فواحدة بعد الاخرى بدأت العديد من الممثلات الشهيرات مثل كاميرون داز وباريس هيلتون في ارتداء جينز يصل سعره الى 200 دولار، ويظهر في الصور في جميع انحاء البلاد، ويضع ماركات غير معروفة في دائرة الضوء.

وبالرغم من الشائعات حول انفجار فقاعة الدنيم الفاخر، فإن هذا القطاع لا يظهر اية اشارات على التباطؤ أو التراجع. ففي العام الحالي، كانت بنطلونات الجينز التي يصل سعرها الى اكثر من مائة دولار، معظمها منتج هنا في لوس انجليس، وتعتبر اسرع قطاعات الجينز مبيعا في المحلات الكبرى.

فقد ارتفعت مبيعات الرجالي منها بنسبة 45 في المائة والنسائي بنسبة 24 في المائة، طبقا لشركة ان بي دي، وهي شركة ابحاث تسويق، بينما انخفضت مبيعات الجينز التي يقل سعرها عن 50 مليون دولار بالنسبة للجنسين.

وشركة «بريد» واحدة من المستفيدين: بنطلونات الجينز التي تفصلها موجودة على رفوف محلات مثل بلومبيغديل وفريد سيغال وسيرل. وقال فيرو «هذه بداية جيدة»، ويتوقع انه استثمر مليون دولار في هذا المجال ويأمل في ان يحقق ربحا خلال عامين.

وتجدر الاشارة إلى أن عودة الدنيم عبر محيط الباسيفيك إلى الولايات المتحدة يعتبر شيئا غريبا في عصر العولمة. فهناك مجموعة محدودة للغاية من الشركات الاميركية التي نقلت عمليات التصنيع الى خارج الولايات المتحدة وعادت مرة اخرى.

ولكن هذا ما حدث مع الدينم، ليس لأن صنع في الولايات تضيف قيمة لقطعة الملابس، بل لأنه من الاسهل والارخص، بالنسبة لشركات الملابس الفاخرة صناعة الدينم في الولايات المتحدة.

وشركات مثل «بريد» لا يمكنها إيفاء الحد الادنى من الطلبات الذي تشترطه المصانع الاجنبية التي تصنع الجينز لشركات عملاقة مثل ليفايز ورانغلر ـ او المساحة ولا عدد الموظفين.

ولكن في لوس انجليس، وجدو شركات راغبة للعمل مع شركات صغيرة ـ ليس من منطلق العمل الخيري، ولكن لأن صناعة الدينم، مثل معظم قطاع الملابس، كانت تمر بمرحلة انتقالية.

ونموذج شركة كايتاك مثالي في هذه الحالة فالشركة بدأت نشاطها في عام 1991، وكانت تغسل الجينزات بحك الاحجار لمحلات «غيس» و«غاب» وغيرها من الشركات. وبسبب حجمها وضعت تلك الشركات كميات كبيرة من بنطلونات الجينز مع كايتاك. وبحلول عام 2000 نقل العديد من كبار زبائن كايتك اعمالهم الى المكسيك وغواتيمالا والسلفادور حيث رفعت المرتبات والاجور الرخيصة ارباحهم.

وكانت ظاهرة الدينم الفاخر تطورا جيدا لكايتاك، فبحلول اواخر التسعينات، بدأت مجموعة من الشركات المشابهة في الانتشار في لوس انجليس، غير أن بنطلونات الجينز التي صنعوها كانت بخمسة جيوب مثل «ليفيز». فقد اصر المصممون على استخدام افضل انواع الدنيم، المستورد من اليابان وايطاليا، التي تحتوي على مواد مطاطة تحيط بالورك، وطالبوا بصناعة كل خطوة باليد، بالإضافة الى عملية غسيل معقدة وتفاصيل يصعب تحقيقها.

ورغم أن «كايتاك» كانت معتادة على عمل اقل كثافة بكثير، إلا أنها كانت بحاجة الى زبائن جدد لتعويض ما خسرته. ولهذا فإنها بدأت تعمل مع شركات الدينم الرفيعة المستوى لتطوير أنواع جديدة تماما من التكنولوجيات. وفي عام 2000 فكرت كايتاك بماكينات الصنفرة لجعل الدينم يبدو قديما عبر توجيه مواد صخرية عالية الضغط من أجل أن تكون تكنولوجيا متفوقة، وإن كانت هذه الماكينات عاطلة في الوقت الحالي.

على سبيل المثال فمن اجل الخطوط الأفقية لتغيير الألوان التي تمر على منطقة الورد، صنعت كايتاك بالونات تنتفخ وتنكمش مقلدة السيقان داخل البنطلون لكي يتمكن العاملون من صنفرة الدينم باليد.

ومن أجل الخطوط الثلاثية الأبعاد أو الطيات الدائمة، طلبت كايتاك مواد صمغية سريعة التصلب تكوى مع الجينز ثم تسخن في فرن. ومن أجل جعله معتقا، بصورة صناعية فانه يجرب باستخدام العشرات من المواد الكيماوية، التي تستقر على رذاذ البوتاسيوم وتترك لونا عتيقا يميل الى الصفرة.

ويتخذ تطوير هذه التكنولوجيات أشهرا، ان لم يكن سنوات. وهناك اتجاه نام يدعو الى طبقة بلاستيكية سوداء مشعة على الدينم. وقد قضت كايتاك ثلاثة اشهر محبطة من أجل اتقان العملية حتى لا تزول طبقة التغطية، عند الجلوس على الكراسي أو استخدام اليد. وكان الحل تسخين طبقة التغطية في فرن وتسليط تيار عالي الضغط من أجل مزجه في الدينم.

ومخاطر هذه العملية، من الغسيل والرذاذ والصنفرة والتسخين على الدنيم، كبيرة ومهمة. وعندما وصلت البنطلونات الأولى من الدينم الى المحلات راح مئات المستهلكين يشكون من أن غطاء الركبة والجيوب الخلفية تمزقت مباشرة بعد الشراء. وفي الوقت الحالي فان شركات مثل كايتاك اقامت مختبرات خاصة للسيطرة على النوعية من أجل اختبار مثل هذه العيوب.

ولم تعوض الطلبات من الشركات الصغيرة عما خسرته «كايتاك» عندما شحنت ليفيز و«غيس» منتجاتها الى الخارج. ولكن الأرباح كانت كبيرة. فقد استقطعت كايتاك اسعارا، للصنفرة اليدوية والغسيل بالمواد الكيماوية الذي طلبته شركات تصنيع النوع الفاخر، اعلى بكثير مما فعلته لعمليات الغسيل بحك الأحجار في سنوات التسعينات. ويمكن أن يصل سعر الغسيل لشركات الدينم الفاخر الى 30 دولارا للبنطلون، بالمقارنة مع اسعار تبلغ دولارين للجينز التقليدي.

وسرعان ما أصبحت كايتاك المفضلة في الصناعة الجديدة وقد استخدمت لشركات مثل سفن فور أول مانكايند، وترو ريليجن، وايرنست سوين، وأغيف، وجيمس جينز، بل وحتى ليفايز. وعندما عرضت لفايز انتاجها من الجينز الفاخر قبل سنوات عدة وسمته كابيتال غي، لتتنافس مع شركات كبيرة أخرى في لوس انجليس، عادت الى كايتاك. وتشغل ليفايز في الوقت الحالي مكتبا صغيرا في داخل مقرات كايتاك، التي أصبحت تشكل العمود الفقري للصناعة، لأن عددا قليلا من شركات تصنيع الدينم، يمكن أن توفر امكانية الخياطة والغسيل والتعبئة لبنطلوناتها من الجينز. وحتى أكبر اللاعبين في الصناعة مثل سفن فور أول مانكايند وبيبر دنيم أند كلوث، تقوم بتعاقدات في الكثير من عملها مما يبرر السعر المرتفع.

يقول ريك كرين، مدير المبيعات والتسويق في شركة سيفن «نحن لا نصنع كل شيء هنا». فالشركة تعتمد على ست شركات للخياطة وسبع شركات للغسيل، بل واعدت مكانا من ممتلكاتها لواحدة منها، وهي غارمنت الأميركية التي اعتاد صاحبها اجراء عمليات غسيل الجينز لشركتي «غيس» و«كالفن كلاين»، ولكنه ترك العمل عندما انتقلت هذه الشركات الى الخارج. من جهة أخرى، فإن مايكل كاسل مالك مشارك لشركة «سترونغهولد»، وهي شركة دينم جديدة تبيع الجينز الفاخر بسعر يصل الى 1200 دولار للبنطلون الواحد، ويشغل ستة خياطين ولكنه ينجز «كل شيء آخر في الخارج» بعقود، يقول انه كان يتعين عليه أن يقطع مشوارا طويلا يقارب الخمس مرات في اليوم من أجل الحصول على قطعة الجينز من متعاقد، وتسليمه الى آخر.

وفي احد الأيام الأخيرة اختار 12 بنطلون جينز من «اول أميركان ووش»، وهي شركة غسيل ابتدأها مقاول اعتاد أن يقوم بعمليات الغسيل لشركة «غيس» واتجه الى سامبل اكسبريس، وهي شركة صغيرة لعمل الغرزات في الجينز، تعرضها شركة سترونغهولد للمشترين في المتاجر والمحلات من أجل جذب الاهتمام.

ثم وضع كيسا صغيرا من الجينز في «سانتا فينيشينغ» وهي شركة متخصصة في المرحلة الاخيرة من انتاج الملابس، وتقوم بتفتيش الملابس للتأكد من خلوها من الاخطاء، وتصليحها وكيها ثم وضعها في اكياس وتسليمها للمحلات.

وقال باري فورمان رئيس شركة سانتا فينشينغ ان قطاع ملابس الجينز الفاخرة يمثل جزءا صغيرا من عمله. أما لماذا يهتم فورمان بمثل هذا العميل الصغير؟ فقد رد قائلا: «شركات الدينم الكبيرة يمكنها الحياة بدوني». ونظر الى كاسل الواقف الى جواره وقال ولكنه لا يستطيع ذلك».

*«خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»