لماذا نبكي في السينما؟

تأثر الأشخاص بالأفلام المؤثرة والحزينة هل هو انعكاس للمشاعر الداخلية؟

TT

ربما يعود الأمر الى الفيلم أو الى الوضع النفسي الذي نحمله داخلنا. أم أنه التقمص، أو ربما شعور بالإثم؟ قد يتعلق الأمر بالجينات أو بالشرط الثقافي. أم أننا ببساطة كنا نبكي لأن رئيس العمل رفض أن يعطينا إجازة أسبوع بمناسبة الأعياد؟

وما نعرفه هو أننا جميعا نقوم بذلك بدرجات متفاوتة. فبعضنا تنهمر دموعه مثل شلالات لتغمر رواد السينما بما نعرضه من حالات تقمص. والبعض الآخر مثل صحارى تعتبر الدموع بالنسبة لهم شحيحة مثل الواحات. ومعظمنا يقف بين بين.

وقد يكون المحفز على ذلك الظلم الأخلاقي في Schindler"s List، أو الطريقة التي يتحدث بها الممثل هيث ليغر عندما يعترف بالمشاعر المحرمة في Brokeback Mountain أو في فيلم مايكل كيتن، وهو يحتضر من السرطان بينما يعد شريط فيديو لابنه المستقبلي. وأيا كان المحفز الخارجي فانه يزيح أكياس الرمل عن ضفافنا الداخلية. هناك نجلس حيث يلفنا الظلام وعيوننا مغرورقة بالدموع ونحن نشعر بالعجز. ونصبح متفاعلين عاطفيا مع شخصيات الفيلم كما نفعل مع الشخصيات الواقعية.

ما هذا؟ من المؤكد أننا نريد التحدث عنه، ونقايض حزننا العميق بشيء آخر مثل حزن طلاب المدارس المتوسطة. ونحن نصارع مثل كتاب بطاقة هولمارك من أجل الوصول لكلمات تصف تلك المشاعر. وصلنا الفيلم، وارتبطنا به. انه يتحدث الى شيء ما داخلنا. وفي مناقشاتنا عند العشاء أو في مكان وقوف السيارات تنطلق الأساطير (والحقائق): النساء يبكين أكثر من الرجال. النساء يخرجن عن أطوارهن ليجدن سببا سريعا للبكاء. أما الرجال فلا يبكون إلا عندما يرمي احدهم شيئا من توابل حارة على عيونهم. ولكن ماذا بشأن النساء اللواتي يقهقهن بسخرية عبر الفيلم الدرامي Steel Magnolias أو الرجال الذين ينوحون مثل أطفال عند نهاية سبوك على الشاشة؟ نحن نعبر عن خيبة أملنا بشأن تلك «الاستثناءات» ويتعمق اللغز. وينبغي ألا يفاجئنا أن العلماء والمفكرين الثقافيين لديهم ما يقولونه في هذه المناقشة. ففي بحثه عن سيكولوجية البكاء في أوائل ثمانينات القرن الماضي أخضع أخصائي الكيمياء البيولوجية ويليام فري ما يقرب من 150 شخصا لمحفزات بكاء مختلفة، بينها الفيلم الفرنسي Sundays and Cybele الذي يعرض قصة صداقة بين محارب قديم مصاب بالنسيان وصبية يتيمة، وفيلم Brian"s Song الذي يدور حول رجل مصاب بالسرطان.

وفي كتابهما الموسوم «البكاء: سر الدموع» توصل فري والمؤلفة المشاركة مورييل لانغسيث الى ان الأولاد والبنات يبكون بقدر متماثل حتى سن البلوغ. ولكن بينما يبدأ الأولاد بافراز هرمون التستوستيرون والبنات بافراز هرمون الأستروجين، فان ردود أفعالهم تتباين. ويظهر ميل لدى النساء نحو البكاء أكثر من الرجال، بأربع مرات، وعادة بين السابعة والعاشرة ليلا. كما اكتشف ان البكاء (من النوع العاطفي بالمقارنة مع ذلك النوع الناجم عن تقشير البصل) يطلق مادة التوكسين الداخلية وهو نوع من الفعل التطهيري.

وخلال بحثه اكتشف فري أيضا دراما تؤدي الى انهمار الدموع، وهو دراما بريطانية عام 1957 تحمل اسم All Mine to Give وتجري أحداث المسرحية في أواخر القرن التاسع عشر في ويسكونسن، وتروي قصة عائلة اسكوتلندية تفقد الوالدين وترك الابن الكبير البالغ 12 عاما ليعتني بشقيقاته وأشقائه الخمسة.

وكان جمهور المشاهدين يبكون بالتأكيد، في مشهد يجول فيه ذلك الصبي (ريكس تومسون) من باب الى باب مع أشقائه ليعطي كل واحد منهم لعائلة جديدة. وبعد مشاهدات قليلة لم يعد فري قادرا على المشاهدة. وقال «أعطي حديثي الافتتاحي، وأفتح جهاز الإنارة المسرحية. أتجه الى باب الخروج. وما أن كنت أسمع الموسيقى في البداية فان ذلك يجعلني أبكي. انه حديث عن رد فعل بافلوفي» (نسبة الى العالم الروسي بافلوف صاحب نظرية الانعكاس الشرطي).

ويعتقد فري ان ما جعلهم يبكون في الواقع هو التقمص. ويقول انه كان مساعدا إذا ما كانت الشخصيات نفسها عاطفية، لأن ذلك يقول للجمهور ان هذا الفيلم حزين جدا حتى إذا كانت الشخصيات تبكي. ولهذا فإنهم يتوصلون الى انه «من المألوف بالنسبة لي أن أفعل ذلك أيضا». ويرفض توم لوتز، أخصائي السوسيولوجيا ومؤلف كتاب «البكاء: التاريخ الطبيعي والثقافي للدموع»، نظرية فري حول البكاء باعتباره علاجا ذاتيا كأسطورة ثقافية. ويقول انه «اذا ما كان البكاء علاجا فان الممثلين الذين يبكون على المسرح مرتين كل ليلة أحد، يمكن ان يكونوا الأشخاص الأكثر سلامة من الناحية السايكولوجية في ثقافتنا، ونحن نعرف ان ذلك غير صحيح». ويقول لوتز «إن ما يثير انهمار الدموع في الواقع هو توليفة من مشاعر متناقضة. فنحن نتأثر عاطفيا الى حد العجز عن الكلام عند إنجاز أدوار اجتماعية، مثل تعهد زوجين بالحياة معا في حفل زفاف أو في حفل الاستقبال بعد ذلك حيث يرقص الأب مع ابنته. ولكننا نبكي لأسباب هي مزيج من السعادة والألم، مدركين أننا لا يمكن أن نرتفع الى مستوى تلك اللحظة. وبكلمات أخرى فنحن نعزف على أوتار قيثارة ذهنية تجمع المشاعر الايجابية الرئيسية مع النغمات الأكثر حزنا. وتنهمر الدموع قبل معرفتنا بذلك». وتردد ماري بيث أوليفر، أستاذة الاتصالات في جامعة ولاية بن والباحثة في تأثير الإعلام على الناس، أصداء نظرية لوتز على مستوى اكثر فلسفة. وبالنسبة لها فان محفزات البكاء «تجعلنا نتأمل ما هو مهم وهادف حول الحياة الإنسانية. فتلك الأفكار مقترنة بمزيج من المشاعر التي يمكن أن تكون مبهجة ولكنها أيضا نوستالجية ورغائبية وشفافة وحادة. فالدموع ليست مجرد دموع حزن، بل هي دموع بحث عن معنى وجودنا السريع الزوال». ولهذا فإننا نتعاطف ونتقمص، ونعزف، ونفلسف في لعبة الظل والضوء. ولكن أيا كان ما نفعله في الواقع في إطار الآلية الداخلية التي لا توصف التي نسميها الروح، وأيا كان محتوى البرولكتين في دموعنا، فإننا نصوغ آصرة شخصية مع فيلم معين لن نفقدها أبدا. أما بالنسبة للحب فانه من الأفضل ألا نفهم الجبر التأملي الذي يربطنا بفيلم Beaches وإنما أن نكون ممتنين لأنه يضفي المزيد الى لحظات مثل هذه.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»