السياج الفضي... جديد واجهة بيروت البحرية

حين يصبح الأمان سيد الموقف

قبل
TT

اتخذ الطفلان مكاناً استراتيجياً طالما سعيا مسبقاً «لاحتلاله». اخيراً سيتمكن الصغير زياد ورفيقته زينة من تأمل البحر بأمان من دون خوف والدته وملاحقتها اياه وصراخها لتنبيهه كل لحظة. كذلك لن تسمع زينة تهديدات مشابهة من والدتها. سيدنو الطفلان من حافة الكورنيش البحري، في غرب بيروت، الى اقصى حد، سيستمعان بحرية وعن قرب الى اصوات امواج البحر الابيض المتوسط. لا خطر بعد الآن، بإمكان الاطفال ان يتحركوا كما يطيب لهم بعد تثبيت سياج جديد على طول الواجهة البحرية لبيروت. فالكورنيش البحري يتمتع بجاذبية قل نظيرها، يزوره يومياً آلاف المتنزهين الساعين خلف الراحة والاستكانة بعيدا عن القلق النفسي الذي تفرضه الاوضاع الامنية على الساحة اللبنانية. هنا، يمكنكك مشاهدة راكبي الدراجات الهوائية يمارسون رياضتهم، أو هواة المشي وبائعي الذرة والفول، إضافة الى الفنانين، وتحديدا ممثلي المسرح، ستجد كذلك احد بائعي الكتب السياسية والثقافية والادبية وقد نشر «بضاعته» على الكورنيش. انها نقطة استراتيجية لا شك... لكن الطلب على الكتب السياسية شبه معدوم، «ملّت الناس السياسة» ـ يقول الرجل الخمسيني ـ «انظر، الجميع يدخن النرجيلة محاولا ان ينفخ على الاوضاع الامنية والسياسية القائمة لعلها تنجلي». الكورنيش مقصود، يأتي اليه كل من يبحث عن الهدوء الفكري. كأنه حاضر للاستماع الى يوميات المواطنين الذين يعبرون ويدردشون مثيرين كل ما يخطر ببالهم من مواضيع. ولم يبخل المكان على العاشقين بفرصة للقاء والنزهة. لكن تركيب السراج الجديد زاد من إقبال الرواد. والحوادث القليلة التي كان يتسبب بها الفراغ بين قضبان السياج القديم طويت صفحتها ولم يعد، أي كان، معرضا للخطر اذا قرر الاستكانة الى السياج الجديد. فهو لن يسمح بما سمح به «زميله» السابق، فارتفاعه يؤمن الحماية اللازمة لدى فقدان التوازن، وشكله الذي يتخذ نصف استدارة سميكة ومنيعة يبدو كحارس لمجتمعه الصغير الذي لا يجد متنفسا له سوى هذه الرئة البحرية المجانية.

والاهم في الامر ان سياج الكورنيش البحري اضفى جواً من الطمأنينة والفرح في نفوس الاهل القلقين ابداً على سلامة ابنائهم، كما منح «المشاغبين الصغار» فرصة ثمينة للاستماع بأوقاتهم على طريقتهم، حتى عندما تغفل أنظار الاهل عنهم للحظات. فـ«عهد» السياج الحديدي القديم الذي كان يفتقد بعض مواصفات الامان ولّى الى غير رجعة. ويمكن لمن يقصد المكان ان يلتفت يمنة او يسرة ليشاهد عشرات الاطفال الذين يسعون للهو واللعب والتسلية برفقة اهلهم. لننتقل بأنظارنا الى المقلب الآخر للصورة، ولندر ظهرنا قليلا للبحر. سنشاهد امامنا مباشرة الابراج والابنية المتميزة، هذا «برج الأحلام» الشهير الذي قيل إن فيفي عبده اشترت فيه شقة بأكثر من مليون دولار، والذي سرت احاديث عن مرفأ صغير خاص به، أسفل المبنى، ترسو فيه القوارب السريعة التي قد يملكها السكان من المشاهير والأثرياء العرب واللبنانيين! بل ذهب البعض إلى «التأكيد»، إبان إنجاز المبنى، أن باستطاعة مالكي الشقق الصعود إليها بسياراتهم، مستقلّين مصعداً خاصاً. وهناك «جادة فرنسا» و... الخ.

صورة الكورنيش لم تكتمل بعد، فالورشة لم تسدل ستارة نهايتها... ثمة حفر كبيرة موزعة هنا وهناك يُنتظر ان تستقبل قريباً اشجار النخيل، كما سيضاف المزيد من المقاعد الى الرصيف. تطالب جنى بأن تكون المقاعد الجديدة أقرب إلى الحافة من تلك المقاعد القديمة. يزعج صاحبة النارجيلة البحرية أن ينغّص عليها المارة المتمهلون، والمهرولون الرياضيون، منظر الأفق المفتوح. فإذا اقتربت المقاعد الجديدة من الحافة أكثر، صار مرور هؤلاء من خلف الجالسين، والكل ينال مبتغاه. هذه النقطة لا تهتم لها ريما، «المهم ان اولادي بات بامكانهم التنقل بأمان وليسوا مهددين بالسقوط في الماء». احمد ينزعج من السياج الجديد، يبدو انه لا يريحه، فلن يتمكن من الجلوس عليه طويلا كما كان يفعل على السياج السابق... اما ما يهم شادي من كل ذلك ان «السياج مرتب ونظيف وحضاري». يبقى انه ومهما اختلفت وجهات النظر حسب «المصالح» الخاصة، فان القاسم المشترك يتمثل في ان السياج يوفر السلامة العامة أفضلية على اي شيء آخر. السياج الجديد هذا، هو عبارة عن خمسة قبضان متقاربة فيما بينها، والجيد ان لونه سيبقى ولن يتغير مطلقاً على خلاف السياج الحديدي السابق الذي تبتعد قضبانه الحديدية عن بعضها وكلما سقط المطر سنحت للصدأ فرصة غزوها. والدة زياد التي تنظر اليه بحنان تقول: «الحمد لله الطفلان يقفان في موازاة الامواج تماماً». يحاول الولد شد أنظار الفتاة الى باخرة تعبر مياه المتوسط... يهمس في اذنها: «عندما نكبر سنسافر معاً، انا وانت». الكلمات هذه وقعت صدفة على مسامع الاهل، فعلا الضحك، «انه ابنك، ونسخة عنك» تقول والدة زياد لزوجها. الجميع فرح الآن. الكل بأمان. لا مجال لعمليات «الانتحار» الطفولية.