مصري يدخل موسوعة غينيس بجدارية «سوق الجمعة»

طولها 23 متراً وارتفاعها 140 سم واستغرق رسمها 5 سنوات..

«سوق الجمعة» للفنان التشكيلي المصري طه القرني (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

«سوق الجمعة» عالم شديد الخصوصية والتفاصيل المعبِّرة عن الهوية المصرية الحقيقية والبسيطة بشخوصها وتضاريسها، زمنها وملامح معيشتها المغبرة بشقاء رحلة الحياة تتجمع في تركيبة واحدة كلعبة البازل، الكل متداخل مع الآخر في استسلام ورضى كل يوم جمعة من نهاية كل أسبوع.

بهذه المنمنمات وأكثر، دخل الفنان التشكيلي المصري طه القرني موسوعة غينيس للأرقام القياسية بلوحته التشكيلية الأكبر مساحة على مستوى الجداريات الفنية في العالم (سوق الجمعة) والتي افتتح لها معرض بجاليري الأوبرا بمواصفات خاصة يمكن أن يستوعب أبعادها العملاقة بطول 23 مترا وارتفاع 140 سم.

يقول القرني لـ«الشرق الأوسط» ان لوحته تمثل عالما خاصا من «الناس البسطاء والفقراء القادمين من كافة محافظات مصر ليبتاعوا ما هم في حاجة له وما هم ليسوا في حاجة له من منطلق القناعة بمبدأ الأسعار الرخيصة، في حين أنهم من الممكن جدا أن يكونوا قد صرفوا مبالغ مضاعفة للقدوم من قراهم وبلداتهم البعيدة، وعلى الرغم من ذلك فهم شخوص شديدو الثراء الإنساني والتعبيري لدرجة أنهكتني وأتعبتني كثيرا أثناء رسم اللوحة ليس بسبب المجهود بل بسبب معايشتي لهم وتأثري الشديد بهم لدرجة إنني كنت أشعر بأنني ألهث من كثرة الانفعال» ويضيف القرني: «لقد استفزتني تلك الوجوه الحاملة للسمات المصرية ونوعية اللبس والتفصيلات داخل كل شخصيه داخل هذا السوق على اختلافها وثقافاتها مما استفزني لأسجل لقطة فنية تجمع بين عالم المتناقضات داخل سوق الجمعة (سوق الإمام) متأثرا بالملمح الإنساني ولغة التعامل بين العناصر والطابع المميز للمكان».

اللوحة التي تمثل السوق بباعته على اختلاف بضاعتهم والتي غالبا ما تكون مجرد (فرش متاع) على الأرض وحال البسطاء تضج بجدل الحركة والسكون، فهم يفاصلون في عملية الشراء ومتعبون من الزحام، وينادون على بضاعتهم الصغيرة المتهالكة والمستعملة في أحيان كثيرة، مما خلق حالة من التعايش الشديد القرب لدى طه لدرجة انه ابتكر أسلوبا جديدا في رسم اللوحة التي استغرقت حوالي ثلاثة أعوام من العمل المتواصل. ويضيف الفنان أن التحضير للوحة استغرق من 4 إلى 5 سنوات تقريبا ما بين زيارة أسبوعية للسوق ورسم اسكتشات وأخذ صور فوتوغرافية، «سجلت 20 ساعة لحركة السوق بكاميرا الفيديو وكنت أقوم بإدارة هذه الأشرطة وأنا أرسم اللوحة، فالتعايش السمعي للسوق جعلني أرسم بإبداع مختلف لدرجة إنني كنت أشم رائحة كل ما يباع في السوق وأنا أرسمه!».

والغريب أن الفنان لم يرد أن يكون عمله عن سوق الجمعة على هيئة لوحة تشكيلية، «أردته أن يكون أوبريتا مسرحيا غنائيا كبيرا على غرار أوبريت «الليلة الكبيرة» بعرائس الماريونيت ولو كنت نفذت هذه الفكرة لكنا نقلنا شيئا شديد الشفافية عن الحياة المصرية الواقعية بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتراثية والإنسانية والمعيشية، إلا إنني لم أجد مَنْ يتحمَّس للفكرة ويستعد لتنفيذها، فكانت اللوحة».

وعن حجم المساحة العملاقة التي دخل بها موسوعة غينيس، يقول طه: «لم أتخيل يوما أن تتشعب شخوص السوق لكل هذه المساحة. كما أنني لم أتخيل ايضا أنها عمل يجب أن يكون ضخما لأنافس به على موسوعة الأرقام القياسية، ولكنني عندما كنت انتهي من مرحلة من مراحل الرحلة والتي تمت على 9 مراحل متعاقبة كنت اكتشف انه ما زال هناك الكثير لتخرج اللوحة في حجمها النهائي 23 مترا طولا و140 سم ارتفاعا. لقد كان كل ما يهمني رصد الحالات الإنسانية على اختلافها داخل السوق».

ويؤكد أن قراره بالتوقف عن الرسم في اللوحة جاء بعد أن لاحظ امكانية التكرار «عندما لاحظت أنني من الممكن أن اكرر الشخوص أو انفعالاتهم المختلفة من جديد مع أي وجه جديد أرسمه، هنا فقط وضعت الفرشاة جانباً». ومن المدهش أن شعور طه لم يكن السعادة البتة عند الانتهاء من اللوحة، فيقول: لقد أصبت بحزن شديد عندما انتهيت منها، لقد كان عملا ممتدا عاشرني وعاشرته وحينما تركت الفرشاة من يدي أحسست أنني تركتهم للأبد أو تخليت عنهم، لقد عشنا مع بعض زمنا طويلا، لذا لم أكن سعيدا بانتهاء الرحلة وتمنيت أن تطول».

على الجانب الآخر، عرض اللوحة لم يكن بالأمر السهل، وذلك بسبب صغر مساحة معظم قاعات الفن التشكيلي في مصر وهو ما أجل عرض اللوحة لفترة، فيقول طه: «نعم كنت مجبرا على الانتظار لأن القاعة الوحيدة التي كانت تستوعب مساحة اللوحة هي قاعة الفن بمسرح الهناجر، إلا انه كان تحت الترميم وقد تحمست للوحة الدكتورة هدى وصفي، إلا أن الانتظار كان أمرا صعبا على نفسي، فلقد أردت أن أرى مولودي يخرج للنور وبالفعل استوعبت قاعة الفن التشكيلي بدار الأوبرا اللوحة».

طه القرني ينفي أن تكون له أي نية في بيع اللوحة على الرغم من إنها كلفته ما يقارب نصف مليون جنيه مصري حتى تخرج بشكلها النهائي، إلا انه على استعداد أن يهديها لأي جهة تحترم هذا العمل من حيث القيمة الإنسانية التي أراد من خلالها أن يكشف للعالم المخملي وجها آخر لحياة أناس بسطاء يعيشون زخم الحياة بكل قسوتها، ومع ذلك فهم راضون! يذكر أن «سوق الجمعة» الشهير بالقاهرة، كان مقره في حي امبابة ثم تحول السوق إلى منطقة برقاش بالجيزة، وتبدأ الحركة فيه من بعد صلاة فجر الجمعة حتى العشاء في حركة دائبة غير مملة ثم انتقل هذا السوق ليستقر بجوار سوق الحمام بمنطقة السيدة عائشة والذي يسمى «سوق الإمام» ممتدا ما بين مقابر الإمام حتى حضن جبل المقطم.