باريس تشتاق إلى سنواتها «المجنونة» في عشرينات القرن الماضي

معرض في متحف الموضة يستعيد بدايات الشعر القصير وفساتين «التشارلستون»

TT

يسمونها في فرنسا «السنوات المجنونة»، والمقصود بها تلك الحقبة اللاهية من سنوات الحرية والرخاء التي أعقبت الحرب العالمية الأُولى وامتدت لغاية الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ضربت العالم نهاية عشرينات القرن الماضي. وعن تلك السنوات يقام في متحف الموضة في باريس المعروف باسم «موزيه غالييرا» معرض يستعيد بهاء تلك الفترة التي شهدت ثورة في المظهر الخارجي للمرأة.

والكل يعرف أن أشكال الثياب لا تأتي من فراغ بل هي تعكس طبيعة الحياة الاجتماعية ومستوى المعيشة وأنواع التيارات الفكرية والفنية السائدة في منطقة ما من العالم. لذلك عكست أزياء الفرنسيات في تلك السنوات عطش المجتمع الفرنسي كله الى التمتع بالحياة وتعويض ما سرقته سنوات الحرب من أفراح ومسرات صغيرة.

في تلك الفترة أطلق المغني دريان أُغنيته الشهيرة «لقد قصصن جميعاً شعورهن». وكانت كلمات الأُغنية تتغزل بالنسوة اللواتي تخلين عن ظفائرهن التقليدية وما تتطلبه من عناية يومية واعتمدن موضة الشعر القصير «ألا غارسون» لأنها أنسب لحياة الحركة والعمل. ألا يذكرنا هذا بموضة الشعر القصير التي اجتاحت المدن العربية، منتصف القرن الماضي، بعد أن كتب نزار قباني قصيدته التي يقول فيها: «إن عاتبوك يوماً كيف قصصت شعرك الحريرا، قولي لهم أنا قصصت شعري لأن من أُحبه يحبه قصيرا»؟

لم يكن الشعر القصير وحده على الموضة في السنوات الفرنسية المجنونة بل جاءت من الولايات المتحدة الأميركية نساء مغامرات وفنانات حالمات بعاصمة النور وجلبن معهن فساتين الـ«تشارلستون» التي تكشف عن الركبة والقلائد الطويلة والشفاه العريضة المصبوغة بالأحمر القاني. ومع نسمات التخفف من الثياب التقليدية انتشرت موضة قيادة المرأة للسيارة. ويبدو أن كل خطوة كانت ترافقها أُغنية فقد أنشد المغني الشعبي بيسكو أُغنية «أنها تعرف قيادة الاوتوموبيل».

يحتفي متحف الموضة في باريس بتلك السنوات لأنها كانت المفتاح الذي دار في عقول الفنانين وفي جيوب الاقتصاديين وأنتج الريادة الفرنسية في تصميم الأزياء، وهي ريادة تجني باريس بفضلها المليارات كل عام وتحقق لها أكثر مما يحققه بيع طائرات «ميراج».

يشاهد زائر المعرض 170 نموذجاً من أزياء العشرينات، و200 قطعة للزينة (أكسسوار)، بالاضافة الى العشرات من أقلام أحمر الشفاه وقناني العطور وعلب المساحيق التي كانت المرأة «المهذبة» تتحجج بها للانسحاب من الجلسة لكي تذهب لـ«نثر البودرة على أنفها». وهناك في المعرض الذي يستمر حتى نهاية شباط (فبراير) المقبل عشرات الصور والرسوم والأفلام والاسطوانات التي تدور لكي تجعل من الزيارة نقلة زمنية تعود بالزائر 90 سنة الى الوراء. كان آخر معرض مخصص لتلك السنوات قد أُقيم في عام 1970 حسبما تذكر صوفي غروسيور، أمينة هذا المعرض، الذي جاء لينفض الغبار عن المقتنيات والموجودات الثمينة لمتحف الموضة الذي يتخذ من قصر «غالييرا» الجميل مكاناً له. وتضيف الأمينة أنهم اضطروا الى ترميم 80 في المائة من المعروضات التي تسللت اليها الأنامل القاسية للزمن. وبقدر ما تبدو ثياب النهار متقشفة وبسيطة، آنذاك، بقدر ما تبهر الزائر فساتين السهرة التي تدخل فيها الأقمشة اللماعة. إنه زمن انتشار معطف المطر والثياب الرياضية (السبور) والأنسجة الصناعية المريحة والقبعات الصغيرة. وهو أيضاً زمن المطرزات والكشاكش والسلاسل الذهبية واللؤلؤية والشرائط والريش والتيجان التي توضع فوق «باروكات» الشعر الملون بالوردي والبنفسجي. وهو أخيراً الزمن الذي قذفت فيه النساء الى سلال القمامة بمشدات الجسم، أي وسائل التعذيب تلك التي ورثنها من جداتهن وأمهاتهن وبقايا موضة القرن التاسع عشر.

وعلى صعيد مستحضرات التجميل كانت تلك الفترة سباقة الى ابتكار الدهون المغذية للبشرة والعصارات المذيبة للشحوم. وهي السنوات التي صار فيها التبرج الظاهر للعيان دارجاً لكل النساء في الأماكن العامة بعد أن كان مقصوراً على فتيات الليل والمتعة. وبرزت أسماء لسيدات امتلكن مصانع لمواد الزينة، أبرزها سوزان لونغلان التي كانت الطبعة الفرنسية من سيدات أميركيات غزون عالم التجميل باقتدار، مثل هيلينا روبنشتاين وإليزابث آردن. كما ظهرت علامات تجارية من نوع «بورجوا» وعطور صارت في عداد الأساطير مثل «رقم 5» من شانيل.

وإذا أرهف زائر المعرض «أنفه» فإنه يستطيع أن يتشمم نفحات من هذا العطر ترفرف في الأجواء وبين طيات الثياب المعروضة.