لبنان: قلعة المسيلحة التاريخية رممت لتعود إلى الحياة

تضاربت الروايات حول تاريخها

قلعة المسيلحة التاريخية تعود الى الحياة السياحية بعد الترميم ( خاص بـ «الشرق الاوسط»)
TT

قلعة المسيلحة التاريخية التي مثلت في اذهان اللبنانيين عبر صورتها المطبوعة على ورقة الـ25 ليرة التي لم تعد قيد التداول نظرا الى انعدام قيمتها الشرائية، ستعود الى الحياة. فهذه القلعة التي قاومت أزمنة طويلة الى ان هددتها اعمال الكسارات الاخيرة، جاء من يلتفت اليها اخيرا، ويوليها بعض الاهتمام الذي أصاب القلعة بغيابه، بأضرار جسيمة بلغت حد تشويه الاطار الطبيعي الذي يحيط بها.

أعمال الصيانة والترميم جاءت بمبادرة من جمعية الانماء الاجتماعي والثقافي (انماء) ومؤسسة SRI انترناشيونال وبلدية حامات وتحت اشراف المديرية العامة للاثار في وزارة السياحة. وتندرج في اطار مشروع توسيع نطاق الفرص الاقتصادية الممول من الوكالة الاميركية للتنمية الدولية.

وقد شملت الاعمال انشاء سور حول الاراضي المحيطة بطول 600 متر مع وضع بوابات للدخول والخروج، فضلا عن تأهيل درج القلعة ووضع حماية حديدية له وتأهيل الفتحات والممرات والطاحونة لضمان سلامة الزوار. كما خصّص سكن لحراس القلعة واقامة حمامات للزوار. ولم تغفل اعمال التأهيل وضع لوحتين ارشاديتين عن تاريخ القلعة بالعربية والانكليزية والفرنسية لتعريف الزوار بها. وسيتم اعداد دراسة لانارة القلعة وواجهتها على ان تتولى وزارة السياحة تمويلها لاحقاً.

وقال المدير العام للآثار فريديريك حسيني لـ«الشرق الاوسط» ان الاعمال التي انجزت «تأتي بتضافر جهود القطاعين الاهلي والحكومي. وتهدف الى ضمان السلامة العامة وضبط محيط القلعة لانها كانت مفتوحة ما حوّلها مرمى للنفايات. لذلك كانت الاولوية لوضع سياج ودرج وحراس تمهيدا لتشجيع اللبنانيين قبل الاجانب لزيارة هذه القلعة خصوصا اولئك الذين يتوجهون الى الشمال. المهم في القلعة هو موقعها الاستراتيجي والطبيعي، لذا نحاول قدر الامكان المحافظة على اطارها الطبيعي ومنع تشويهه». وأشار الى انه لم تفرض اي رسوم دخول حتى الآن.

تقع هذه القلعة على مسافة 2.5 كلم الى الشمال الشرقي من منطقة البترون على الساحل الشمالي لبيروت. وتبلغ مساحتها خمسمائة متر مربع ويزيد ارتفاعها عن خمسين مترا. تقع على الضفة اليمنى لنهر الجوز جنوب منطقة رأس الشقعة، ويعني اسمها المكان المحصّن فهي تصغير لكلمة مسلّح. أما تاريخها فيبدو ان الروايات حوله متشابكة ذلك ان بعض المؤرخين اعادوا بناء هذه القلعة الى حقبة الصليبيين، فيما استبعد آخرون ان تنتمي الى حقبة ابعد من القرن السابع عشر أي ايام السلطنة العثمانية وذلك استنادا الى تقنيات البناء المستخدمة.

فمن المؤرخين والاختصاصيين في فن العمارة الذين انكبوا على درس «المسيلحة»، ثمة من اعتقدوا أن الصخر الذي تقوم عليه استخدم في العصور القديمة لإقامة مراكز عسكرية.

وبغض النظر عن صحة هذه الفرضية أو عدمها، فان قلعة المسيلحة لا تحتوي حاليا على اي جزء يمكن ان يعود الى فترات سابقة. لذلك يستبعد العلماء ان يرجع عهدها الى ابعد من القرن السابع عشر، ذلك ان تقنيات العمارة وتقصيب الحجارة ومقاساتها، بالاضافة الى تعميم استخدام الاقواس الفطساء فوق الابواب والنوافذ، تعتبر من التقنيات التي انتشرت مع السيطرة العثمانية. هذا ما ينطبق على اشكال المنابل، خصوصا تلك التي لها فتحات دائرية في اسفلها، والتي لا يمكن تفسيرها الا في حال استخدام اسلحة نارية.

يذكر ان المستشرق الفرنسي ارنست رونان الذي اتى منذ اواسط القرن التاسع عشر الى لبنان مع الحملات الفرنسية وقطن مدينة عمشيت الجبيلية لسنة، لم يرَ في هذه القلعة، اي جزء يعود الى ما قبل العصر الوسطوي. اما مؤرخ العمارة الصليبية بول ديشان فلم ير في البناء، ما يدل على انه من عمل الصليبيين، لا بل انه يعود الى فترة متأخرة.

وعندما مر الرحالة الفرنسي جان دو لا روك بقرب قلعة المسيلحة، اواخر سنة 1689 في طريقه من طرابلس الى البترون، ذكر ما رواه له اهل المنطقة، ان القلعة من اعمال الامير فخر الدين الذي كان في ما مضى امير لبنان. وهذه الرواية التي أتت بعد نحو خمسين سنة على وفاة الامير، تستحق الاهتمام. ذلك انها جاءت على لسان اشخاص ربما كانوا شهود عيان على الحدث. وقد جاء التاريخ عينه على لسان بعض الاخباريين الآخرين. اذ اورد الخوري منصور الحتوني، في سرده احداث سنة 1624، ان الامير فخر الدين «أمر الشيخ ابا نادر الخازن في عمار قلعة المسيلحة شمالي البترون»، فيما اضاف مصدره طنوس الشدياق، عند سرد احداث سنة 1631، اي بعد مرور ست سنوات على «عمارها» ان الشيخ ابا نادر الخازن نفسه اجرى اعمال ترميم في القلعة.

لقد استقرت سنة 1624 تاريخا لبناء القلعة في ايام الامير فخر الدين في ذاكرة الاخباريين كما في ذاكرة الاهالي والشهود. ويؤكد هذا التاريخ احد اكثر الرحالة ثقافة، وهو لودفيك بوركهاردت الذي زار المنطقة في بدايات القرن التاسع عشر واكد ان قلعة المسيلحة حديثة العهد.

في اي حال، ان للقلعة أهمية استراتيجية كبيرة بفضل اشرافها على جزء كبير من الطريق التي تربط منطقة البترون بمدينة طرابلس في الشمال اللبناني. لذلك، اتى بناؤها محصنا منيعا إذ شيدت على صخر بارز وسط وادي نهر الجوز عند ولوجه سهل البترون من الجهة الشمالية الشرقية. وقد فرض شكل الصخر على مهندس القلعة تصميماً معيناً، بحيث ان اسوارها الخارجية تتناغم وحدود الصخر الذي اقيمت عليه. يتراوح عرض جدرانها بين متر ونصف ومترين. وقد استخدمت في بنائها الحجارة الرملية ذات مقاييس متوسطة، رغم وجود بعض الحجارة الكلسية الاكبر حجماً، وهي حجارة يقدّر انها تعود الى منشآت مماثلة اقدم عهدا.

بنيت القلعة على مرحلتين، وهو ما يفسّر تكوينها من قسمين متلاصقين يشكلان وحدة هندسية متناسقة. ويمكن الوصول اليها اما عبر سلوك درب ضيق حفر قسم منه في الصخر أو عبر الدرج. ويؤدي هذه الدرب الى مصطبة صغيرة تفضي الى باب القلعة الرئيسي الذي يعلوه قوس افطس. اما للراغبين في الاطلاع على اجزائها فما عليهم الا زيارتها.