كاميرا تلتقط الدمار لحظة «ولادته» وتعري الكذبة الإسرائيلية

«تحت القصف» لفيليب عرقتنجي عن حرب تموز 2006 في لبنان

احدى لقطات فليم «تحت القصف»
TT

جرعات مستعجلة من الهواء النقي هي أكثر ما يحتاج اليه المرء بعد مشاهدة الفيلم الأخير للمخرج اللبناني فيليب عرقتنجي. «تحت القصف» يعيدنا الى صيف 2006 وتحديدا الى يوليو (تموز) وأغسطس (آب). يعود بنا الى عزّ صيف لن ينساه اللبنانيون بسهولة «بفضل» البوارج والطائرات الإسرائيلية التي لم تبخل باصطياد الللبنانيين أطفالا وشيوخا ونساء، فضلا عن الرجال.

في ذاك الصيف، لم يبحث عرقتنجي عن طريق مفتوح او جسر سليم ليغادر عبره لبنان، فإذا به يسير عكس التيار. يقصد الجنوب لاهثا وراء القنابل، حاملا كاميرته ليقتنص بها الدمار لحظة «ولادته». يلاحق القذائف لحظة بلحظة، فإذا بنا نشاهدها تسقط. نسمع دويّها، نشهد غبار شظاياها و... لكنها لا نرى أشلاء الضحايا كما اعتدنا في نشرات الأخبار المتلاحقة.

فيلم كعنوانه صوّر تحت القصف وبعد وقف اطلاق النار انما تحت الحصار ايضا. ولهذا ينطوي على الكثير الكثير من التلقائية والعفوية الواقعية، إذ انه اتخذ من الحرب مسرحه، ومن الدمار ديكوره وجعل من الطائرات الحربية مؤثرات خاصة لقصة استوحيت من المآسي اللامتناهية التي مني بها اللبنانيون. قصة أتى بها عرقتنجي لاحقا، لأن هاجسه الاول كان الاستفادة من العنف «الحي» الذي تركز على قصف المدنيين. فانقضّ عليه بعدسته، هو الذي أعد اكثر من 40 شريطا وثائقيا، علّه بذلك يؤرشف الدمار والطغيان ويعلن على الملأ الصورة الحقيقية للدولة العبرية. هذه الدولة التي قصفت المدنيين وشرّدت العائلات وقتلت الاطفال ويتّمت المئات منهم بحجة الدفاع عن النفس. هي الدولة نفسها التي استباحت الأرض اللبنانية مرارا واقتحمتها واجتاحتها، وأفلتت كل مرة من أدنى مظاهر الاحتجاج الدولي، لا بل على العكس نالت الدعم والتأييد العالميين، ربما بفضل الصور المحوّرة والريبورتاجات المنحازة لأشهر القنوات العالمية وخصوصا الغربية. وربما لهذا السبب ارتأى عرقتنجي اختيار طريقة مختلفة عن ثقافتنا العربية التي اعتادت تصوير الأشلاء المتطايرة والدماء المنسابة. فضّل الابتعاد عنها والدوران في فلكها كما يفعل الغرب علّه بذلك يحاكيه فيجذبه لمتابعة قصة المعاناة. لكن هذا لم يمنع المشاهد من اشتمام الموت الذي فاحت رائحته في ثنايا اللقطات. اذ ان الأجواء كانت ملبّدة بكمية هائلة من الركام الذي طمر جثث الشهداء الذين سقطوا طوعا وغصبا، حتى استحال انتشال بعضهم في الايام الأولى. أنقاضا أصبح الجنوب، وذهول أصاب المشاهدين الذين عاد بهم هذا الشريط الى ايام أرادوا نسيانها لتخطيها. فثمة من تشنّجوا على مقاعدهم طوال فترة العرض وثمة من اطلقوا العنان لدموعهم فانهمرت بغزارة، وثمة من تحلّوا بقساوة لم تثنهم لاحقا عن الاعتراف بأن الفيلم قاس بمقدار ما هو حقيقي.

القصة بدأت مع زينة (ندى بو فرحات) الأم التي هرعت من دبي الى لبنان بحثا عن طفلها كريم الذي أرادت له ان يمضي صيفا في قريتها «خربة سلم» الجنوبية برفقة خالته. ارادت ان ينعم بعطلة تبعده عن مشكلات والديه الزوجية ليلعب في ارجاء القرية التي كبرت فيها قبل ان تتزوج وتسافر وتبتعد عن بيئتها. هذا الابتعاد بدا جليا، اذ بنا نرى نموذجا مختلفا عن الصورة النمطية للشابة الجنوبية. ربما هذا هو الأسلوب الذي لجأ اليه عرقتنجي لالتزام الحياد السياسي، لكن هذا ايضا ما جعل البعض يرون فيه خطأ جسيما أولا لاستحالة الامر في لبنان وثانيا لان الفتاة لم تترك جنوبها فحسب، بل تخلّت عن لكنتها حتى بدت غريبة بين اهلها.

بعد عناء طويل، وصلت زينة الى لبنان يوم وقف اطلاق النار ولم تجد سوى طوني (جورج خباز) من بين سائقي التاكسي ليقلّها الى الجنوب. هي ذهبت مجبرة وهو أجبر نفسه على الذهاب. هي المسلمة تهرع لايجاد ابنها وأختها، وهو المسيحي الذي يخشى الذهاب تجنبا لـ«المطاردة» أو لوصمة العار التي طبعته بما ان اخاه ارتكب «خطيئة حياته» عبر التعامل مع جيش لحد الجنوبي حين كان في الثامنة عشرة. خيوط الوحشة وعذاب الفراق عن الاهل جمعا زينة وجورج. هي افترقت عن اهلها وشقيقتها وقريتها بعد زواجها، وهو يحلم بملاقاة اخيه في ألمانيا التي لجأ اليها بعد الانسحاب الاسرائيلي. إنه الفراق الذي يجمع اهالي الجنوب على اختلاف طوائفهم.

وصلا الى الجنوب على وقع الأخبار الساخنة، هي متحلّية بالأمل وهو متسلّح بالنقمة. طريق طويل صادفت فيه زينة كوارث جمّة، فإذا برحلة البحث تتحول موعدا غير مضروب مع مفاجآت ولقاءات محزنة. من مشهد اجلاء الرعايا الأجانب في مرفأ بيروت الى مشهد قوات اليونيفيل التي تنظف رقعا في الجنوب من القنابل العنقودية التي أمطرتها اسرائيل في سماء لبنان، فإلى مشاهد المدارس التي فتحت صفوفها لاستقبال النازحين. وإذا بالأم تصادف امهات ثكالى او مصدومات، وفي لحظة بدت أشبه بثغرة درامية خيّل للمشاهد انها تحاكي الصحافيين بأدائها. ذلك ان الام تحوّلت مراسلة ميدانية تقابل النازحين فتسأل عن حال امّ أو جدة هنا وفتى هناك، وكأنه لا ينقصها الا ان تحمل دفترا صغيرا وقلما لتدوّن ما تسمع وتسجل ما ترى. أما السائق طوني فتنازعته شخصيتان، الاولى شهمة تريد المساعدة وتقديم الدعم للام المنهارة، والثانية روح الجشع والاستغلال ذلك انه تمكن من اقناع أحد العمال بالحصول على أدوية الأعصاب مجانا قبل ان يبيعها لأشخاص مفجوعين «برسمالها» كما قال، كسبا للمال. قد يعجب النقاد بهذا العمل وقد ينتقده كثيرون ويسلّطون الضوء على الكثير من الشوائب لاسباب محقّة، لكن الحريّ الافتخار بفيلم كهذا والدعوة لانتاج أعمال من صلب المعاناة، علّها تظهر الوجه الآخر لمن أمعن في الإرهاب والاختباء خلف أقنعة الاعلام والاعلان المنمّقة.