هل يكون لباريس مسجد جديد؟

مرشحة لمنصب العمدة وعدت بتشييده

مسجد باريس الكبير («الشرق الأوسط»)
TT

أعلنت فرانسواز دو بانافيو، مرشحة الحزب الحاكم لمنصب رئيس بلدية باريس، أنها تؤيد تشييد مسجد كبير جديد في العاصمة الفرنسية. ورأت بانافيو أن من حق كل طائفة دينية أن تتمكن من ممارسة شعائرها في ظل احترام مبادئ الجمهورية الفرنسية.

وتحتضن العاصمة عشرات المساجد التي تستقبل المصلين المسلمين الذين يشكلون الأغلبية الدينية الأكبر في فرنسا، بعد الكاثوليكية. ويعتبر مسجد باريس الكبير الواقع في الدائرة الخامسة، غير بعيد عن معهد العالم العربي، واحداً من المعالم الحضارية والمعمارية البارزة في المدينة، بطرازه الأندلسي ومئذنته البيضاء المربعة المحاطة بالقباب وبواباته الخشبية المنقوشة وحديقته المزهرة، وكذلك بالحمام والمطعم والمقهى الملحقة به.

ولا يسمح القانون المحلي للمساجد و الجوامع برفع الأذان للصلاة، لكنك لا تحتاج في باريس الى ما يدلك على مكان الصلاة وأوقاتها في مسجدها الكبير، إذ يكفيك أن تتبع جموع المصلين الذين يقطعون شارع «جوفروا سان هيلير» نزولاً في اتجاه ساحة «بوي دولارميت» لكي تجد نفسك في المكان المطلوب. وقد يدهش الزائر وهو يرى جموع الشباب والبنات تجتاز البوابة المؤدية الى المقهى العربي، فالمسجد يمتلك مدخلين، واحداً للمصلين والثاني للزوار من كل الأديان والجنسيات، يتوافدون للجلوس في باحته وفي ظلال شجيرات التين المحملة بالثمار، يحتسون الشاي بالنعناع في الشرفة الجميلة المرصوفة بالموزاييك الأزرق والأخضر.

وقد لا يعرف الكثيرون أن في فرنسا أكثر من ألف مسجد إسلامي للصلاة. لكن الرقم ليس كبيراً إذا عرفنا أن البلد يضم أكثر من خمسة ملايين مسلم، وهناك من يؤكد أن الرقم الحقيقي قد بلغ الستة ملايين، والكثير من هؤلاء يقيمون صلاة الجمعة في أماكن مرتجلة لا تتوفر فيها الشروط المناسبة، كمرائب السيارات وسراديب العمارات والفضاءات الفارغة والحدائق العامة. لهذا فإن مسجد باريس الكبير يبقى أبرز مراكز العبادة الاسلامية وأقدمها وأهمها سلطة دينية، ويعتبر إمام مسجد باريس الكبير، تقليدياً، الممثل الأول للمسلمين في البلاد والمدافع عنهم أمام السلطات الرسمية. لكن الأمر لم يكن يخلو، على امتداد العقود الماضية، من تجاذبات بين القائمين على هذا المسجد وبين جمعيات أخرى تمثل المسلمين في فرنسا، ويأتي أغلب تلك الخلافات من بعض الدول العربية والاسلامية التي تحاول التأثير على جالياتها المهاجرة، أو من بعض التيارات المتشددة التي نشأت على الساحة الفرنسية وتجد صعوبة في التأقلم مع القوانين العلمانية للبلد.

تأسس مسجد باريس الكبير على قطعة أرض تبلغ مساحتها هكتاراً، وكان هدف الدولة الفرنسية من إنشائه رد الجميل لعشرات الآلاف من الجنود المسلمين من أبناء المغرب العربي وأفريقيا الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الاولى وسقط من بينهم الكثير من الضحايا. وقد بني المسجد فوق قطعة الأرض التي كان يقوم عليها مستشفى «بيتييه» القديم. وجرى وضع الحجر الأساس له عام 1922 وتم افتتاحه في الخامس عشر من يوليو (تموز) 1926 بحضور رئيس الجمهورية، آنذاك، غاستون دوميرج.

وخلال الاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، تحول مسجد باريس الى مكان لمقاومة الاحتلال بالنسبة للمسلمين المقيمين في البلد. وتولى المقاتلون الجزائريون من فرقة القناصة الأنصار نجدة المظليين الانجليز من جيش الحلفاء الذين كانوا يهبطون بمظلاتهم في الأراضي الفرنسية لتنفيذ عمليات ضد المحتل، وإيجاد الملاجئ لهم. كما قدم اولئك المقاتلون الجزائريون المساعدة لمعارفهم من العائلات اليهودية التي طاردها النازيون. ودبروا لهم المخابئ في المساجد، تمهيداً للحصول على جوازات مزورة تتيح لهم الهرب الى مناطق آمنة أو عبور البحر الأبيض المتوسط وبلوغ المغرب، البلد الذي تعهد عاهله بحماية الجالية اليهودية فيه. وقد شهد الطبيب اليهودي المغربي أسولين، بعد انتهاء الحرب، بأنه أحصى 1600 بطاقة هوية تم تسليمها الى اليهود الذين كانوا مختبئين في مسجد باريس الكبير.

بني المسجد على الطراز المعماري الاسباني الموريسكي. وتحملت فرنسا تكاليف البناء وأوكلت ادارة المسجد، في ما بعد، الى الجزائر التي تولت تمويله. لذلك فإن الذين تعاقبوا عليه من الأئمة كانوا جزائريين أصلاً. وآخرهم الدكتور دليل أبو بكر الذي انتخب أيضاً رئيساً للمجلس التمثيلي للمسلمين في فرنسا. إن تمثيل قرابة الستة ملايين مسلم ليست بالأمر الهين، خصوصاً انهم يتحدرون من 53 بلداً ويتحدثون 21 لغة مختلفة وقد جاءوا الى هذا البلد طلباً للرزق، أو هرباً من التعسف في بلدانهم الأصلية، أو من الحروب والنزاعات الأهلية. لكن تبقى الغالبية لأبناء المغرب العربي، وبعدهم الأفارقة من السنيغال ومالي والغابون، وأعداد من الأتراك والايرانيين والأكراد.

توجد في فرنسا اليوم حوالي الألفي جمعية اسلامية، كل منها تمثل فئة ذات جذور ومنابت جغرافية مختلفة، لهذا كان من الصعب على السلطات تحديد الجهات التي تمتلك شرعية تمثيل أكبر عدد من المسلمين. وابتدع بعض السياسيين الفرنسيين مصطلح «الاسلام الفرنسي» لوصف نوع التدين «المرغوب فيه» في هذه البلاد. والمقصود به ممارسة شعائر العبادة بدون تنافر مع القوانين والعادات المتبعة في فرنسا.

وفي حال فازت فرانسواز دو بانافيو بمنصب عمدة باريس، فإن وعدها بتشييد مسجد جديد في العاصمة سيأتي منسجماً مع تزايد أعداد المسلمين والحاجة الى مكان يتسع للصلاة وأيضاً لاحتواء الآلاف من الشبان الذين يحتاجون تأطيراً سليماً قبل أن تتخاطفهم جهات تستثمر سلبياً النقمة التي يشعرون بها بسبب أحوالهم المعيشية الصعبة.