«السفن العربية» هدية «الوراقون» للاحتفاء بالتراث

السفينة رمز المعرفة والتواصل والتطور
TT

لم تتخلف شركة النشر البحرينية «الوراقون» عن موعدها السنوي لتقديم هديتها الى المكتبة العربية «لتروج ابداعا بصريا مغايرا وتحتفي على طريقتها بمفردات الثراث العربي وثقافته عبر رؤية فنية فريدة تجمع بين أصالة الموضوع وجدة التناول»، وكعادتها اختارت محورا من المهن التراثية في الخليج تحديدا والعالم العربي عموما وصولا الى المغرب.

هذه المرة جاء دور السفن العربية في إصدار أنيق، ليعيدنا الى العلاقة التلقائية بين الانسان ومحيطه، حيث عاش البحارة العرب منذ أول الزمان. الناشران ميساء الانصاري ومحمد بو حسن انطلقا في اختيار موضوع السفن من فكرة مفادها ان السفينة رمز المعرفة والانتقال والتطور. وهي ايضا رمز النجاة. من هنا اعتبرا ان «أشرعة الخليج الناصعة ليست فقط تراثا أصيلا سطره الاجداد على شواطئ الخليج، وليست فقط صفحة مشرقة من تاريخ حضارتنا العربية، وانما هي أساس نهضة تلك البلاد، اقتصادا وثقافة واجتماعا وسياسة، كما انها اولا صلة الوصل مع كل ما يوجد بعيدا ليعرف ويكتشف. انها بوابة لتحقق الوجود بالمعرفة». يعود الكتاب الى التاريخ البحري ليطلعنا على مرحلة ما قبل ظهور الاسلام في جزيرة العرب المحاطة بثلاثة بحار، حيث كان القحطانيون يمخرون عبابها من اليمن والبحرين وخليج عمان وفق خطوط بحرية مدروسة، وقد احكموا هيمنتهم على التجارة في المحيط الهندي التي كان يسيطر عليها اليونان ثم الروم، وذلك من القرن الرابع حتى القرن السابع ميلاديا. ويستعرض الكتاب انواع السفن الشراعية التقليدية في الخليج العربي، فيحدد المعالم التي تميزها عن نظيراتها اليونانية والرومانية والصينية. فهي تتصف بأجسامها المقطبة، إما بالالياف او بالاطواق قبل استحداث المسامير الحديدية.

والسفن الشراعية في الموانئ الخليجية قديما، تنوعت تبعا لشكلها تارة ووظيفتها تارة أخرى، واكتسبت اسماءها من خلال هذا التنوع، منها ما تكون كل من مقدمتها ومؤخرتها ذات زاوية حادة، ومنها ما تكون مؤخرتها ذات شبه مربع او مستطيل. كذلك صنفت بحسب وظائفها الى ثلاثة انواع، الاولى سفن الاسفار البعيدة والنقل البحري، حملت اسماء «البغلة» و«الغنجة» و«البوم». والثانية سفن الغوص للبحث عن اللؤلؤ وصيد الاسماك، سميت «البقارة» و«البتيل» و«الجالوت» و«السنبوك» و«الشوعي» و«بوم الغوص» و«اللنج» وغيرها. والنوع الثالث سفن النقل الساحلي ومنها «بوم الماء» و«النشالة» و«حمال باشي». واختلفت هذه الانواع من حيث التصميم لتناسب الوظائف، فسفن النقل البحري تتسم بسعتها لاستيعاب البضائع وبهيكلها القوي القادر على مواجهة الرياح العاتية. في حين تميزت سفن الغوص بصوار طويلة مما يعطيها سرعة أكبر، وتكون مزودة بمجاذيف لاستخدامها اذا سكن الهواء. المواد المستخدمة في صناعة السفن لها قاموس خاص في الكتاب. كلها طبيعية طالعة من بيئتها، يكفي الاطلاع على مكوناتها ليشعر القارئ بالنبض الذي يسري من البحار الى سفينته، ويحول العلاقة شغفا عضويا يروي حكايات عن حضارة كانت تنسج يوميات ابناء الخليج العربي. وغالبا ما كانت تعبر هذه المواد المحيطات لتصل الى الشواطئ العربية وتتسلمها سواعد العمال لتنحتها وتطوعها وكأنها تعدها لتقوم بمهمتها الى جانب البحّار، فتكون شريكة مغامرة ومعاناة، لا وسيلة نقل فحسب. في هذا الاطار يتضح مستوى الرياضيات والعلوم الطبيعية والالمام بالمعادلات الكيميائية عند العرب الذين عرفوا كيف يستخدمون «الصل» مثلا، وهو زيت ابيض عازل للماء يستخرج من جوز الهند، ويستخدم لعملية «القلطفة» التي تتمثل في وضع فتائل قطنية مشبعة بهذا الزيت في الفجوات بين ألواح السفينة منعا لتسرب الماء الى داخلها وحفظا من التعفن. و«الصل» لا ينفي الحاجة الى «الدامر»، المادة الصمغية النباتية ذات اللون الاحمر التي تحمي أجزاء السفينة من التعفن والتآكل، خاصة ما يتعرض منها للماء كمواضع اتصال الاعمدة مع القاعدة.

اما ألواح خشب المانعو المتميزة بخفة وزنها ورخص اثمانها فكانت تستخدم في صناعة المجاذيف والصناديق التي تشحن فيها البضائع. ولمزيج «الشونة» الابيض اللون شأن آخر، فهو مكون من الكلس والشحوم الحيوانية يطلى به أسفل السفينة لوقايتها من الفطريات البحرية والكائنات التي تلتصق بجسدها فتترك حفرا وندوبا في ألواحها. الادلة والادوات الملاحية تكفي لتؤكد ان البحارة العرب كانوا السباقين في اختراع كل ما يلزم علم القياس، سواء بالاساليب الحسابية لخطوط الطول والعرض وقياس بعدها عن نجم القطب، او مع استحداث البوصلة والاسطرلاب والكمال وغيرها.

لكن الجزء الممتع من كتاب «السفن العربية»، تبقى الصور. وهي اختصاص رفيع المستوى تميز به «الوراقون» حيث تطالعنا صور السفن بأنواعها وتفاصيلها وخصوصياتها، ليتدرج لون ألواح الخشب تارة حتى تكاد نلمس احمرارها ونشعر بحرارتها، أو يتمارى هيكلها على صفحة المياه. والاحلى صور العمال وهم ينسجون اواصل القربى بين البحارة ومراكبهم.