ما بين فنية ديور ورومانسية زهير مراد وشاعرية يحيى البشري

في أسبوع باريس للأزياء الراقية

TT

استهل اسبوع باريس للأزياء الراقية فعالياته يوم الاثنين بعدة مفاجآت أولها مشاركة آن فاليري هاش لأول مرة في هذا الأسبوع، وتقديم البرتغالي فيليبي أوليفيرا باتيستيا تشكيلة ضمنها كل فنيته وحرفيته حتى وإن افتقدت عنصر الإبهار. كان هناك أيضا كريستوف جوسي و«اونورا تو في» وجيورجيو أرماني بخطه «بريفيه»، لكن موسم «الهوت كوتير» في باريس لن يكون له نفس الطعم من دون عرض دار كريستيان ديور، التي تتحفنا كل موسم بدراما جديدة، وبإثارة قد تكون مبالغ فيها، لكنها لم تكن يوما مبتذلة. حتى قبل ان يبدأ العرض كان الإحساس الغامر لدى ضيوف هذه الدار الفرنسية العريقة، انهم أمام وليمة باذخة. المسرح كان يسبح في أمتار وأمتار من التول والشيفون الذي لفه ليعطي الإحساس اننا في قصر خاص بالحريم من العهد العباسي. اما الموسيقى العربية الشرقية، فكانت تعد بليالي الوصل في الأندلس. كانت التوقعات ترجح رحلة إلى الشرق الأوسط هذه المرة، لكن ما إن بدأ العرض حتى اختلفت النغمة وتهادت العارضات على صوت ليد زابلن ثم جيمي هاندريكس، في أزياء كل ما فيها يصرخ بالفخامة والبذخ وتحدي العصر الحالي. التشكيلة مستوحاة من لوحة جون سينغر سارجونت «مدام إكس» اللوحة التي أثارت الكثير من الجدل إلى حد دفع الفنان الاميركي ان يسحبها من معرض باريسي في عام 1884 حتى يأمن الهجومات عليه، ويهدئ من روع من رأى انها غير مناسبة للزمان والمكان. غاليانو على ما يبدو كان مبهورا ليس فقط باللوحة، بل بما توحيه وما أثارته من جدل، وبالتالي من قدرة سارجنت على «صدم الباريسيين بمزجه الجمال والإثارة». وهو ما اعتمده المصمم ونجح فيه بهذه التشكيلة. صحيح ان مدام إكس في اللوحة كانت تلبس فستانا اسود بكورسيه وغاليانو قدم شلالا من الألوان الصارخة، إلا ان الخصر هناك ايضا كان مشدودا وكانت الكورسيهات مخاطة بشكل لا يكاد يرى. التشكيلة ايضا تستحضر بريق الثمانينات من القرن الماضي، وثقافته إلى حد ما. وهي الثقافة التي تؤمن بأن استعراض الثروة لا يتعارض مع الأناقة أو الذوق. فالتشكيلة تميزت بالتطريزات الغنية واستعمال الخرز والأحجار اللماعة بشكل لا يعرف حدودا وبتصميمات لافتة؛ فغاليانو مصمم لا يعرف الحلول الوسطى ولا يهتم بها أصلا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالهوت كوتير؛ فهو يعتبر نفسه فيها مثل الفارس في ميدانه، أما بالنسبة لكميات الأقمشة المستعملة، فحدث بلا حرج. فساتين وتايورات لا شك انها استدعت استعمال أضعاف الأمتار التي تستعمل في العادة، لأن السيد غاليانو ارتأى كعادته ان يؤكد انه عبقري زمانه عندما يتعلق الأمر بالتفاصيل. فالورود التي زينت حواشي الفساتين أو الاكتاف جاءت ضخمة بشكل غير مسبوق، الأمر الذي ساعد على إبراز قدراته التي يحسده عليها العديد من المصممين من الذين رأيناهم في المواسم الماضية يحاولون تقليد أسلوبه وتقنياته، لتأتي النتيجة باهتة لا ترقى ولا يمكن ان ترقى إلى الأصل؛ فالتقنيات التي يعتمدها في لف القماش وطيه لخلق ورود تحاكي الطبيعة مبهرة ولا ينقصها إلا عبيرها. التأثير العربي أو الشرقي لم يكن واضحا، لكن كان هناك شعور ملح للبحث عنه، خصوصا بعد تلك المقدمة الموسيقية الطويلة التي سبقت بدء العرض، وأطمعتنا في حفلة شرقية من ألف ليلة وليلة، لذلك بدأنا نبحث عنه لعلنا نجده في بعض التفاصيل الخفية. وفجأة انتابنا شعور بأن الاشكال الكبيرة والأمتار السخية من التافتا والساتان، التي لفت الظهر أحيانا، وتدلت من التنورة أحيانا أخرى أو ذلك الفستان، الذي يبدو نحيفا عند الصدر ليتسع من أسفل بشكل يكاد يكون مثلثا، كلها تصميمات قريبة من شكل الأهرامات، كذلك أقراط الأذن ذات التأثير البيزنطي. لكن الحقيقة انه إذا كان هناك أي تأثير هنا، فسيكون حتما الآسيوي، الذي رأيناه في تشكيلات غاليانو السابقة، ويبدو انه لا يزال متأثرا به أو بالأحرى لم يشبع منه. صحيح انه لم يكن صارخا هذه المرة كما رأينا في الموسمين الماضيين، لكن القبعات كانت فاضحة بأشكالها المستوحاة من الشرق الاقصى، وإن كان بعضها يظهر العارضات للوهلة الأولى وكأنهن «روبوتات». ولا شك ان مصمم القبعات البريطاني المسؤول عن هذه التشكيلة، تفوق على نفسه هذه المرة، ولن نستغرب ان تعرف قبعاته هذه طريقها إلى مهرجان «اسكوت لسباق الخيول» هذا العام، نظرا لغرابتها من جهة، ولابتكارها من جهة أخرى. وعودة إلى الأزياء، فإن التنوع كان سمة أخرى من سماتها؛ فقد كان هناك الفني المجنون، كما كان هناك المفصل بهندسة عالية، وكأن غاليانو يريد منها تقديم تحية ولاء لمؤسس دار كريستيان ديور المهندس قبل المصمم. ولم ينس غاليانو في خضم كل هذا ان يعرج على ارشيف الدار ليغرف من «دي نيو لوك» مرة أخرى. فالجاكيتات المطرزة كانت واسعة عند الأكتاف بعضها بأكمام مستقاة من شكل الكيمونو، بينما جاء الخصر مشدودا ونحيفا للغاية لتظهر الأرداف بشكل مبالغ فيه. الألوان ايضا جاءت صارخة ومتنوعة ما بين الاصفر الفاقع والأحمر والأخضر الفستقي وغيرها من ألوان قوس قزح، إلى حد انه عندما أرسل فساتين محدودة تعد على أصابع اليد الواحدة باللون الأسود، كان الأمر بمثابة نسمة منعشة. وهذا أمر غريب طبعا، لأن العكس في العادة هو السائد. من سيقبل على هذه التشكيلة كل امرأة تعشق فنية غاليانو ولا تخاف لفت النظر، مع العلم ان «الهوت كوتير» تعني في العادة اختيار فستان لا يتكرر وإجراء بعض التغييرات عليه حتى تتناسب مع شخصية صاحبته وأرض الواقع. أما إذا كان هناك أي شيء يؤخذ على هذه التشكيلة، فهي الأحذية العالية جدا، التي يصعب تصور استعمالها بشكل يومي. تشكيلة اللبناني زهير مراد كانت مختلفة تماما عما قدمه غاليانو، وإن التقيا معا في غرفهما من ثقافة الثمانينات، وبالذات العنصر الذي يركز على الغنى والثراء. مراد اطلق على تشكيلته «الماس دائما» واستهل عرضه بأغنية شيرلي باسي الشهيرة وبمجموعة فساتين سهرة فضية أو مرصعة بأحجار الكريستال او ما شابهها من احجار تبدو مثل الماس. بعد ذلك اتبعها بمجموعة ثانية باللون الأزرق على خلفية مقاطع من فيلم «إفطار في تيفاني» لأودري هيبورن، ثم مجموعة باللون البنفسجي على خلفية فيلم «ذهب مع الريح» وبطلته سكارلت أوهارا، التي لعبت دورها فيفيان لي، ثم مجموعة بالأخضر الزمردي وأخرى بالاصفر ثم الأسود والابيض وغيرها وفي كل مرة اغنية جديدة أو مقطع من فيلم قديم. فكرة بالفعل جعلت من العرض متعة حقيقية، لأن كل اغنية وكل مقطع من الفيلم كان يوضح لنا من دون شرح الإيحاء والنجمة التي ألهمته، بدءا من مارلين مونرو إلى ريتا هايوراث وايفا غادرنر وغرايس كيلي مرورا بأودري هيبورن وليز تايلور. وطبعا لا حاجة للقول هنا ان كل التشكيلة كانت عبارة عن فساتين للمساء والسهرة ولم يتخللها اي فستان للكوكتيل أو غيره. فساتين تلمع ببريق هوليوود في عصرها الذهبي، وموجهة لنجمات هوليوود وحفلات الاوسكار المقبل، إذا تمكن المنظمون من تنظيمه هذا العام بسبب إضراب الكتاب، او اي امرأة رومانسية. الفرق بين المصممين أن الأول، غاليانو، يدعونا دائما إلى التفكير ومشاركته في تفكيك رموز ما يقدمه حتى نبسطه ونجعله مناسبا للواقع، والثاني، زهير مراد، قدم تشكيلة لا تحتاج إلى التفكير بقدر ما تدغدغ احاسيسنا وتجعلنا نحلم؛ فهي مباشرة في تقديمها وتصميماته وتفاصيلها. والنتيجة رائعة في كلا الحالتين، خصوصا وأن كليهما يخاطبان سوقا مختلفة؛ السعودي يحيى البشري من جهته أتحف كعادته باريس بمجموعة مطبوعة بلمساته التي يعتز بها وبجذوره الشرقية، اطلق عليها عنوان «الجمال القاتل»، كل ما فيها ينطق بأسلوب شعراء الصحراء الرومانسيين، فعلى ما يبدو أن المصمم يتقن هذه اللغة؛ فالفساتين تعانق الجسم بشكل يحتفل بجمال وأنوثة المرأة من دون ابتذال، وإن لم يحاول ان يخفي مفاتنها سواء من حيث التفاصيل والقصات أو الخامات المتنوعة التي مزج فيها البشري الدانتيل مع الموسلين والحرير. صحيح ان التصميمات غربية إلا ان التطريزات كانت شرقية وبعضها بالخط العربي، مما أعطاها نكهة دافئة دفء الصحراء. لكن حتى يحيى البشري نفسه، لا يمكن إلا ان يتفق معنا على أنه ورغم إمكانياته في مجال تصميم فساتين السهرة والمساء للمرأة إلا ان مكمن قوته هو الملابس الرجالية؛ فقد أرسل مجموعة منها بتصميمات جد مبتكرة أكدت انه فعلا شاعر التوب الرجالي. أزياء تركت طعما لذيذا يتوسل المزيد، لكنه على غير عادة العرب كان بخيلا في عدد القطع التي أرسلها، أو ربما هي فقط لعبة منه للمزيد من التشويق والترقب.