الموال.. عراقي الأصل مصري الصنعة

يا ليل يا عين والحنين إلى الأرض

محمد العزبي («الشرق الأوسط»)
TT

ما بين يا ليل يا عين المصرية، و«أوف» اللبنانية، و«مواليا» العراقية، وبين وزن الشعر الذي يتعامل به «مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن»، يأتي فن الموال خلاصة تجربة وحكمة، تعبر في الغالب عن الشجن الذي يعتمل بداخل البشر. ولعل هذا هو السر الذي جعل منه فناً له جمهوره من كل المستويات، حيث يلامس المشاعر الإنسانية للناس جميعاً. وعلي الرغم من الخلط بين الموال وبين الغناء الشعبي في العالم العربي، إلا أن الموال الذي بات يعاني من ندرة مؤديه، يظل فناً باقياً يمتع الحس البشري ويستفز فيه المعاني. ومؤخراً أقام مركز ساقية الصاوي في القاهرة مسابقة في الموال بين عدد من الشباب العاشق له بغرض إحياء ذلك الفن والبحث عن مواهب جديدة فيه تعيد للأذهان صوت محمد العزبي ومحمد عبد المطلب وشفيق جلال ومحمد رشدي. المفاجأة أنه تقدم للمسابقة التي شكك البعض في نجاحها عند الإعلان عنها، عدد كبير من الشباب الذين تنافسوا على مراكزها الثلاثة. وقد فاز بالمركز الأول ياسر محمد، وفاز حسام فتحي بالمركز الثاني، أما المركز الثالث ففاز به محمد عبد المحسن. ولعل تلك المسابقة هي ما دفعتنا الى البحث في أصول الموال وتاريخه. يمكن تعريف الموال بأنه بيت من الشعر المقفى الموزون ويسمى بعدد أبياته فقد يكون خماسياً أو سباعياً أو تساعياً، فإذا كان خماسيا، يكون الشطر من قافية واحدة مع اختلاف المعني. وإذا كان سباعيا اتحدت القافية في الأشطر الثلاثة الأولي ثم تتحد القافية في الأشطر الثلاثة التالية، ثم تعود قافية الشطر السابع لتشابه القافية الأولى لكسر الرتابة والملل. وعلي الرغم من وجود الموال في أكثر من شكل في العراق ولبنان ومصر، إلا أنها كلها تتفق في وزن البحر البسيط في الشعر وهو «مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن»، هكذا تحدث الدكتور صلاح الراوي أستاذ الأدب الشعبي بأكاديمية الفنون في مصر، والذي نفي ما يقال من أن أصل الموال يعود الي عهد الفراعنة، كما يردد البعض، حيث يؤكد أن جذور الموال تنتمي إلى العراق حيث عرف طريقه في عهد البرامكة بعد أن أمر هارون الرشيد بقتل جعفر البرمكي مانعاً رثاءه بالشعر، فبكته جواريه بالموال الذي كان يبدأ بكلمة «مواليا» والتي تعني يا مولاي، وهي تشبه كلمة يا ليل يا عين في الموال المصري. وهكذا بدأ الموال منذ قديم الزمن نائحاً مليئاً بالشجن لارتباطه بموقف حزين، ولينتقل الي باقي البلاد، ولكن يظل الموال العراقي واللبناني والمصري أكثرهم بروزاً. وكما هي طبيعة مصر التي تضفي طابعها الخاص على كل ما يأتيها من خارج حدودها، كان للموال المصري حنين خاص بدأه مبدعوه بكلمة يا ليل يا عين التي ارتبطت بالأسى والشجن ومواجع البشر. ويقول الدكتور صلاح الراوي: «ليس هناك تفسير محدد لارتباط كلمة يا ليل يا عين بالموال في مصر، إلا ان الخبراء يؤكدون أنها ارتبطت به لتعبيرها وتوافقها مع حالة الشجن التي يمنحها لمستمعيه، فا ليل يشير في عرف الجماعة الشعبية الي الظلمة والوحشة وكثرة الهموم والعين لا تبصر في الظلام. ولعل هذا ما يفسر ارتباط الموال في لبنان على سبيل المثال بكلمة «أوف»؛ وهي تعني الألم هي الأخرى والتأفف، والحقيقة أن هناك الكثير من المعلومات الخاطئة التي ارتبطت بالموال لدى الجمهور العربي وهو سوء فهم ناتج عن التعالي على الجماعة الشعبية التي غالباً ما توصف من قبل المثقفين بالسذاجة والسطحية في العرض، ولهذا يتعمد المثقفون وصف الموال بأنه فن ارتجالي وهذا وصف خاطئ لأنه لا يوجد فن مكتمل العناصر يأتي ارتجاليا، ففن الموال يتطلب إعداد وثقافة ومفردات ومعرفة عميقة باللغة للحفاظ على القالب الذي يتصف به مع مراعاة وحدة القوافي في الأشطر الأولى واختلافها في الأشطر التالية ثم الالتزام بختام الموال بالعودة إلى القافية الأولى. كما أن شعر الموال هو فن السهل الممتنع، حيث يتطلب النظم مقدرة أدبية ومهارة في توظيف المفردة العربية وتطويعها بما يخدم الجناس والتورية وإيصال الرسالة من الموال».

وكما ارتبط الموال بالشجن والكلمات الحزينة التي تعبر عن خلاصة تجربة، ارتبط بالناي تلك الآلة الحزينة هي الأخرى التي تزيد من شجن الموال وعذوبته. وهو ما يعبر عنه الدكتور صلاح الراوي بقوله: «ارتباط الموال بحالة الشجن مرجعه أنه كان ولا زال وسيلة الجماعة الشعبية في التعبير عن آلامها، فكان بالنسبة لها وسيلة مقاومة لما يعتريها. أما ارتباطه بالناي الذي يحمل الأنين أكثر من السعادة، فمرده صوفي حيث يحمل الناي الحنين بالعودة إلي الأرض التي خرج من غابها أي العودة للخالق». ويفرق الدكتور صلاح الراوي بين الموال وبين القصص الغنائي الذي أداه بعض المطربين المصريين كما في ملحمة أدهم الشرقاوي التي هي في الاصل حكاية مغناه لا ترصد حكمة أو موقفا في خمسة أو سبعة أو تسعة أبيات. وإذا كان الموال فنا ارتبط لسنوات بالتعبير عن الرثاء وخيانة الأصدقاء والأحبة، فقد شهد تطورا في الهدف منه؛ حيث قيل في الغزل والمدح والشكوى والسياسة، بأسلوب قد تجعله حكمة أو مثلا شعبياً. «يا ليل....لقيت طيرة بتتألم ونار حامية بتكويها..على عود الحطب واقفة وشوك الدنيا حواليها...وصياد القدر واقف وبرصاصه هيرميها...سألت عليها بدي أعرف لمين هي ومين ليها...قالولي الأم سيباها وأبوها كمان ناسيها... يا عيني». ذلك الموال غناه ملك الموال المصري الفنان محمد العزبي الذي توجته الجماهير ملكاً على هذا الفن لعذوبة صوته وطلاقته التي اشتهر بها عند غنائه للموال. ويقول الفنان محمد العزبي لـ«الشرق الأوسط»: على الرغم من غلبة الشجن على الموال، إلا أنه فن يعتمد في المقام الأول على التطريب، فالمُغني عندما يقول «يا ليل.. يا عين» ينوع في قسماتها وقد لا يقصد الكلمة بالتحديد بل يستعرض إمكانيات صوته، ويشكل نغمات صوتية مختلفة، ومتنوعة أحيانا تكون طويلة أو قصيرة متتابعة أو منفصلة، وذلك هو سر جماله وسحره، خاصة أنه يعبر عن موروث شعبي ضخم، وتمتلئ كلماته بالحكم والمواعظ، حيث يأخذ قالب الحكاية أو الحدوتة، وهو ما لا نجده في الأغاني الأخرى سواء الكلاسيكية أو الشعبية».