للعام الثاني على التوالي أطفال «أتوبيس الفن الجميل» يرسمون أجندة الثقافة في مصر

مواهب وطاقات مخبوءة تذكرك بفطرية الفن وبدور الفنانين التكعيبيين

رسم للطفلة سارة فوزي جاد، 11 سنة
TT

رسومات غضة تذكرنا ألوانها وخطوطها وعوالمها المتباينة بروح الفن الفطري، وتلقائية الخيال والمغامرة. وتطرح في الوقت نفسه على حسنا وذوقنا البصري الكثير من علامات الدهشة والاستغراب. حتى يبدو لي أن في أعماق كل طفل فناناً ينتظر إثارته كي يخرج إلى النور. فللعام الثاني على التوالي تزين رسومات نحو 24 طفلا من أطفال «أتوبيس الفن الجميل» تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة والرابعة عشرة ربيعا، مفكرة العام الجديد لهيئة قصور الثقافة في مصر. وحين علقت هذه المفكرة على جدران بيتي قفز إلى ذهني إحساس قوي بأن هؤلاء الأطفال برغم ما يعوزهم من ثقل المهارة والتجربة هم فنانون موهوبون، فلديهم عطش ونهم للرسم، ورغبة حقيقية في محاورة الخام والألوان. كما أنهم برغم التزامهم البديهي بمفردات العالم المحيط حولهم، إلا أن بعضهم يملك القدرة على تحويره وتجاوزه.. فأن يصبح للشمس وجه فتاة لها عينان وشفتان جميلتان، وأن يتحول البحر إلى شجرة زرقاء وارفة الظلال، وأن يتحول المدى إلى مساحة مفتوحة من الوهج والرهج يكسوها اللون الأحمر الدافئ الحار، والبرتقالي المشمس.. كل هذا يجعلني ـ في الأقل ـ احتضن هذه الرسومات بحماس وحب.

تهيمن أجواء الطفولة على الرسومات وكأنها المعادل الفني للتعبير عن الطاقة المخبوءة، وينفر الأطفال من الأشكال والصيغ الفنية المنتظمة، فهم لا يعرفونها ولم يسبروا أغوارها بعد. في مقابل ذلك، ليس أمامهم سوى فطريتهم، سلاحهم الوحيد في التعبير عما يألفونه ويحبونه، ربما لذلك نلمح في الكثير من الرسومات هذا الإحساس الجميل باحترام الطبيعة، وتحويل عناصرها المتنوعة إلى «حدوتة» أو متوالية سردية، تختلط فيها البداية بالنهاية، ويصبح الصراع نقطة فارغة، أو خطا متعرجا في اتجاهات شتى، أو بقعة لون شاردة، تلملم ابتسامتها من عتمة الضوء والظل. ويبلغ احترام الطبيعة ذروته الفنية حين تتحول في بعض الرسومات إلى مثل أعلى للبطولة والتضحية، وكأنها كراس مفتوح على أسئلة بسيطة وبريئة لا تنتهي. يعضد كل هذا إحساسا قويا بالرغبة في اكتشاف العالم، وفي الوقت نفسه الإيحاء بأن ثمة موقفا منه قد يدعو إلى السخرية أو الغضب. هذا ما عبر عنه الطفل الموهوب محمود أحمد حميدة، 11 سنة، فقد اختزل هذا العالم في قناع لإنسان، وفي لوحة شديدة الجرأة تذكرك برسومات بيكاسو الأولى، والبذور الأولى للمذهب التكعيبي في الفن. فالخطوط عريضة وصارمة، تنساب وتتموج بين بقع الألوان «الجواش» المتوهجة، مثيرة إحساسا ما بالجفوة والوحشة. وتبلغ موهبة الفنان الصغير أوجها في القدرة على الاختزال، وتهشيم نسب ومنطقية الملامح والأبعاد التقليدية للشخوص والأشكال، وفي الوقت نفسه، بناء جسور أو خيوط أخرى للتواصل، يرى أنها الأقدر والأصدق على توصيل المعنى أو الدلالة المفاجئة التي يريد توصيلها. ملمح آخر من ملامح الجرأة الفنية نجده في لوحة الطفلة هالة جمال همام، 13 سنة. فهذا الواقع الذي تكتظ به اللوحة، وتتجاور أشكاله وعناصره، وما يشي به من فطرية الرؤية، والتعامل الغريب مع مفردات شتى، ومحاولة خلق سياق فني لها، تتنفس من خلاله داخل اللوحة، ثم الوعي الرهيف بجدل المتناقضات، وإمكانية أن توحي بالانسجام والتآلف (أهرامات، مساجد، كنائس، مراكب، مبان، أشجار ونخيل، أطفال وفوانيس). كل ذلك يضعنا أمام حالة ولادة حارة للغة بصرية لافتة، تعبر بها الفنانة الطفلة عن مشاعرها الداخلية، فهي ترى العالم وكأنه كتلة من التجانس، لا فرق بين النسب الطبيعية للأشخاص والأشياء، أو بين الإنسان والحيوان. تتكرر هذا العناصر في لوحة أخرى مشابهة للطفلة فاطمة أبو الحسن أبو بكر، 14 سنة، لكن في سياق يتسم بأناقة المنظور، فالأشكال تتوزع على السطح وتظهر فروقها وفراغاتها جلية، ولا تبحث عن التضاد أو التوتر، لكنها تبحث عن حالة من السكون والصفاء، فيما تكتسب الألوان الصريحة الصفراء والخضراء والزرقاء والرمادية مسحة من التفاؤل. ولا تنسى الطفلة موروثها الشعبي، فتزين بموتيفات منه نوافذ وشبابيك البيوت، وهو ما يضفي عليها إحساسا بالدفء والعراقة. لكن هذا الانسجام الظاهري سرعان ما نجد معادله الفني بشكل أكثر جاذبية في لوحة الطفلة: آلاء إبراهيم مسعود، 10 سنوات، فثمة جرأة شديدة في التعامل مع اللون. فهو محور الإيقاع في اللوحة تنبثق منه الخطوط والأشكال وحركة الزوايا بشكل يشبه الدفء الزغبي.

بيد أن من أبرز علامات الموهبة وفطريتها لدى هؤلاء الأطفال ما يمكن أن يسمى، الإيهام بالواقع. فالكثير من رسوماتهم تزخر بمظاهر عدة للواقع، لكنها مع ذلك تتحاشى أن يتحول هذا الواقع إلى شيء بارد وأصم. ويبقى العنصر الأبقى في ذاكرتهم هو الحلم الدائم بهذا الواقع. فغبار معركة أكتوبر ودخان الدبابات الأسود في لوحة الطفل عمر سيوفي، 12 سنة، هو بمثابة شراع لكي يبحر الطفل إلى الشمس والسماء في رحلة عبور خاصة، يتلمس فيها ذاته وأشواقه، بحب وأمان.

يبقى من الأشياء اللافتة في هذا المعرض المتجدد سنويا ارتفاع نسبة رسوم البنات، وهو ما يشي بحاجة الأنثى الطفلة إلى الرسم ليس كفن راق، فحسب بل كلغة شفيقة لحوار حر، تنفتح فيه على ذاتها وعواطفها من دون حواجز أو رتوش.. تحية لكل هؤلاء الأطفال الموهوبين، والقائمين على هذا العمل الجاد الجميل.